الوقت - لقد أتاح وقف إطلاق النار المتأرجح في غزة، بعد خمسة عشر شهراً من رحى الحرب الطاحنة، لثلةٍ من أبناء فلسطين العودة إلى منازلهم وديارهم المنكوبة، غير أن دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي المثير للجدل، قد جاهر بدعوته المستنكرة لترحيل أهل غزة قاطبةً إلى مصر والأردن.
حيث أعلن ترامب، في الأسبوع المنصرم، عقب محادثاته الهاتفية مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي وملك الأردن عبد الله الثاني، عن زعمه بأن كلا البلدين سيفتحان ذراعيهما لاستقبال الفلسطينيين، من أرضٍ أضحت تحت وطأة آلة الحرب الصهيونية أطلالاً تُنبئ عن مأساةٍ إنسانية مروعة، مردفاً أنه سيطرح هذا المخطط على بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل يملك ترامب حقاً القدرة على إجبار أهل غزة على الرحيل عن ذلك الشريط الساحلي، الذي عجنوا ترابه بدمائهم وأرواحهم؟.
فشل سياسة التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة
شهدت غزة على مدار خمسة عشر شهراً مضت، أعتى موجات القصف والتدمير في تاريخها المعاصر، وكان من بين ما جهر به وزراء الكيان الصهيوني المتطرفون، كإيتمار بن غفير – وزير الأمن الداخلي السابق - وبتسلئيل سموتريتش – وزير المالية - في مستهل عدوانهم الغاشم، مخطط تهجير أهل غزة إلى جنوب القطاع، تمهيداً لإقامة مستوطنات الغزاة في شماله.
لکن مساعي الصهاينة باءت بالفشل الذريع، حتى في محاولتهم إرغام أهل غزة على النزوح جنوباً، فما كان منهم إلا أن رضخوا صاغرين لوقف إطلاق النار، والسماح للمرابطين بالعودة من جنوب القطاع إلى شماله،
وقد أسفرت رحى هذه الحرب الضروس عن محرقة بشرية مروعة، ستة وأربعون ألفاً من الشهداء الأبرار، وخمسون ألفاً استشهدوا جراء الجوع والبرد القارس، وما يربو على مئة ألف ما زالوا تحت أنقاض بيوتهم المهدمة، وواحد وتسعون ألفاً وسبعمئة من الجرحى والمصابين، ناهيك عن تدمير ثمانين في المئة من منازل القطاع، ونصف مبانيه، وقد ذاق عشرون في المئة من أهله مرارة الجوع وشبح المجاعة، فيما نزح ما يناهز المليونين.
غير أن هذا الواقع المرير - الذي يراه أحرار العالم إبادةً جماعيةً ممنهجةً تقترفها أيادي الصهاينة في تل أبيب - لم يفلح في زعزعة عزيمة أهل غزة أو ثنيهم عن التشبث بأرضهم المقدسة، فما برحوا، رغم فداحة التضحيات، مرابطين في ثغرهم، صامدين في وجه العاصفة.
فهل يظن ترامب أن تهديداته الجوفاء ستنجح حيث أخفقت آلة الحرب الصهيونية؟ الجواب يتجلى ساطعا كضوء الشمس في كبد السماء، فإذا عجزت خمسة عشر شهراً من القتل والتدمير والتشريد عن اقتلاع الفلسطينيين من أرض آبائهم وأجدادهم، فإن تهديدات الرئيس الأمريكي لن تكون، بلا ريب، قادرةً على إجبار أهل غزة على الهجرة القسرية.
رفض الدول المضيفة للتهجير القسري
في حين يتشدق ترامب بمزاعم المباحثات مع قادة مصر والأردن حول استقبال المهجرين من غزة، فإن هذين البلدين قد أعلنا - إبان العدوان الصهيوني الغاشم على مدى خمسة عشر شهراً - موقفاً صارماً لا لبس فيه برفض أي محاولة لاقتلاع أهل غزة من أرضهم.
وفي هذه الآونة، يبدو من ضرب الخيال أن يرضخ قادة البلدين لمساعي تهجير أبناء غزة الأباة، بل سيقفون - لا محالة - في وجه مخططات ترامب للتهجير القسري، فكلا البلدين يئنّ تحت وطأة ظروف اقتصادية عصيبة، تجعلهما عاجزين عن احتمال الأعباء المالية الباهظة لموجة جديدة من المهجرين.
يضاف إلى ذلك أن غالبية اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في الأردن ومصر، يتحرقون شوقاً للعودة إلى أرض الآباء والأجداد، ومن ثم، فليس من المستغرب أن تنأى الدول العربية المضيفة بنفسها عن تكبد نفقات استقبال الملايين من مهجري غزة.
وقد جهر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بموقف حازم، مؤكداً أن بلاده لن تكون طرفاً في أي مؤامرة لاقتلاع الفلسطينيين من غزة، واصفاً التهجير القسري بأنه جور صارخ وظلم بيّن، فضلاً عن كونه تهديداً للأمن القومي المصري، مشدداً على أن القاهرة لن ترضخ له مهما كانت الظروف والأحوال.
وقد سار الأردن على النهج ذاته، حيث أكد وزير خارجيته أيمن الصفدي أن موقف بلاده الرافض لتهجير أهل غزة راسخ، لا يتزعزع ولا يلين.
ويرى المحللون أن تدفق مئات الآلاف من الفلسطينيين المهجرين إلى دول أخرى، من شأنه أن يقوّض دعائم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في تلك البلدان، ويزعزع أركانها من الأساس.
الضوء الأحمر الدولي
تقف المعارضة الدولية الصارمة لمقترحات ترامب، حجر عثرة يحول دون تنفيذ مخططات التهجير القسري لأهالي غزة الصامدين خارج قطاعهم المحاصر، فقد جهرت فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي - وهم حلفاء واشنطن المقربون - برفضهم القاطع لفكرة اقتلاع سكان غزة من جذورهم ونفيهم إلى بلدان أخری، في حين نددت الأمم المتحدة بهذا المسعى الجائر، واصفةً إياه بأنه انتهاك صارخ لكل المواثيق والأعراف الدولية.
والواقع أن ترامب في مسعاه المحموم لإفراغ قطاع غزة من أبنائه، لا يجد من يسند ظهره في الساحة الدولية فحسب، بل يصطدم بجدار صلب من المعارضة العالمية التي تزيد مخططاته صعوبةً وتعقيداً.
وفي هذا المضمار، أدلى يوسف منير - رئيس برنامج فلسطين/إسرائيل في المركز العربي بواشنطن - بتصريحات للجزيرة، مؤكداً أن مخطط ترامب البربري لاقتلاع أهل غزة من ديارهم، يستوجب أشدّ عبارات الإدانة والاستنكار، إذ يضرب بعرض الحائط كافة القيم والمبادئ الإنسانية والحقوق الدولية الراسخة. وأردف منير قائلاً إن فكرة التطهير العرقي لغزة ليست وليدة اليوم في جعبة ترامب، فقد ظلّ يردّدها كالأسطوانة المشروخة منذ اشتعال فتيل الحرب في أكتوبر 2023، غير أنها تحطمت على صخرة الواقع مراراً وتكراراً.
وحتى السيناتور ليندسي غراهام - المعروف بولائه المطلق لترامب - حين سئل عن مغزى اقتراح ترامب لتهجير الفلسطينيين، لم يجد بداً من الاعتراف بقوله: "في الحقيقة لا أدري كنه هذا المقترح، لكنه ضرب من ضروب المستحيل على أرض الواقع".