الوقت - إيران التي شقَّت طريقها نحو النظام العالمي الجديد بتوقيعها معاهدات استراتيجية مع عملاقي الشرق الصين وروسيا، تُولي عنايةً فائقةً لسياسة حسن الجوار في علاقاتها الخارجية، ساعيةً بعزمٍ راسخ لتوطيد أواصر التعاون مع القوى الإقليمية.
وانطلاقاً من هذا المنظور، تبوَّأَ تعزيز أُطُر التعاون مع باكستان، تلك الجارة على الحدود الشرقية، مكانةً مرموقةً في أولويات الحكومات المتعاقبة، وفي أعقاب الزيارة التاريخية للفقيد الراحل رئيسي إلى إسلام آباد في أواخر أيامه كرئيسٍ للجمهورية الإسلامية الإيرانية - والتي أثمرت عن توثيق عُرى العلاقات وإبرام ثمانية اتفاقيات تعاون تُمَهِّد السبيل نحو تجارةٍ تناهز الخمسة مليارات دولار - يأتي اليوم دور تعزيز التعاون في المجالين العسكري والأمني.
وفي هذا المضمار، حَطَّ اللواء محمد باقري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، رحاله في إسلام آباد لإجراء مباحثات ومشاورات مع كبار المسؤولين الباكستانيين، وقد عقد اللواء باقري لقاءً مثمراً مع الجنرال عاصم منير، القائد العام للقوات المسلحة الباكستانية، تناول فيه الطرفان آخر مستجدات التعاون الثنائي والقضايا الإقليمية والدولية الملحة.
وقد استهل الجنرال عاصم منير حديثه، مرحباً باللواء باقري ووفده الرفيع، قائلاً: "تتجلى أهمية هذه الزيارة في توقيتها بالغ الحساسية، ففي خضم ما تشهده المنطقة من اضطرابات عاصفة، ولا سيما في عالمنا الإسلامي وعلى رأسها مأساة الشرق الأوسط، تعاني أمتنا الإسلامية من صدعٍ في وحدتها، وما المجازر الوحشية التي أودت بحياة ما يناهز خمسين ألفاً من الأبرياء، وتدمير المساكن، وتشريد مئات الآلاف في غزة الصامدة إلا ثمرةٌ مُرَّةٌ لصمت العالم الإسلامي المطبق".
التعاون العسكري والأمني في صدارة المشهد
نظراً لاتساع الحدود المشتركة بين إيران وباكستان، ظلَّت مسألة تأمين هذه الحدود وحراسة تلك الثغور محوراً جوهرياً للتعاضد بين البلدين، وقد تصدَّرت هذه القضية المحورية مباحثات اللواء باقري والجنرال عاصم منير، وفي هذا المضمار، أفصح قائد الجيش الباكستاني عن رؤيةٍ راسخة قائلاً: "إن سبيلنا الأمثل يتجلى في تحقيق الوحدة الإقليمية، ولا سيما بين قطبي المنطقة: إيران وباكستان".
وأكد عاصم منير، مستنداً إلى ما أثمرت عنه المشاورات الدفاعية والعسكرية في مجال الأمن الحدودي، أن باكستان ستتخذ من التدابير العاجلة والإجراءات الحازمة ما يكفل وأد التحركات الإرهابية في مهدها.
وأضاف: "إن البلدين العظيمين يسيران بخُطىً حثيثة نحو تحقيق التفاهم الشامل في شتى المجالات ذات الاهتمام المشترك".
وأبدى منير قلقاً عميقاً إزاء تغلغل الجماعات الإرهابية في المنطقة، قائلاً: "تقف إيران وباكستان في قلب هذا التحدي الخطير، ما يستوجب الارتقاء بعلاقاتنا إلى مصافٍ أرفع وآفاقٍ أرحب، إذ نؤمن إيماناً راسخاً بضرورة إرساء دعائم الأمن المستدام على حدودنا المشتركة".
وفي المقابل، أعرب اللواء باقري عن بالغ سروره بزيارة باكستان وتجديد اللقاء مع قائد جيشها، مُثمِّناً موقف باكستان النبيل في إدانة العدوان الصهيوني الغاشم على إيران، وكذلك العمليات الناجحة التي نفذتها القوات الأمنية الباكستانية في دحر عناصر "جيش الظلم" الإرهابية.
وكشف اللواء باقري عن شروعهم في اتخاذ إجراءات جذرية لإحكام السيطرة على المنافذ الحدودية، بحيث تنحصر حركة العبور في المعابر الرسمية المقررة بين البلدين، وأردف قائلاً: "إن التنسيق الوثيق على الحدود ضرورة قصوى، كما يتعين أن يُفضي التبادل السريع للمعلومات، إلى عمليات حاسمة تستأصل شأفة الإرهابيين".
تتجلى المكانة المحورية لقضية مكافحة الإرهاب وترسيخ الأمن، في كونها حظيت باهتمام بالغ خلال اللقاء رفيع المستوى بين اللواء باقري والرئيس الباكستاني آصف علي زرداري.
وقد خَلُصَ اللواء باقري وزرداري، في ختام مباحثاتهما المستفيضة حول سُبل تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي في إطار التصدي للإرهاب والتحديات المشتركة، إلى التأكيد بأن: "التعاون الوثيق بين إيران وباكستان في هذا المضمار الحيوي، من شأنه أن يُرسي دعائم الأمن والاستقرار، ليس على حدود البلدين فحسب، بل في أرجاء المنطقة بأسرها".
تجري هذه اللقاءات الرفيعة في ظلِّ ما شهدته الحدود المشتركة بين إيران وباكستان، في العام المنصرم، من وقائع داميةٍ أفضت إلى ارتقاء ثُلَّةٍ من حُماة الحدود الإيرانيين إلى مراتب الشهادة، على أيدي الزُمَر الإرهابية المتحصنة في الأراضي الباكستانية.
ولطالما حثَّت السلطات في طهران نظيرتها في إسلام آباد على اتخاذ إجراءات أشدّ وطأةً وأبلغ أثراً لاستئصال شأفة الإرهابيين المتربصين في معاقلهم، بيد أن التراخي من الجانب الباكستاني قد أتاح لهذه الفئة الباغية أن تتسلل، كلما سنحت لها الفرصة، إلى التخوم الشرقية لإيران، ناشرةً في ربوعها بذور الفتنة والاضطراب، ولم تنأَ باكستان بنفسها عن لظى هذه النار المستعرة، فهذا الداء العُضال يَنخَر في جسد البلدين.
فقد أمعن إرهابيو "داعش" وحركة طالبان باكستان في تنفيذ عملياتهم الإجرامية في شتى أرجاء باكستان، ما حدا بطهران وإسلام آباد، في غضون العام المنصرم، إلى إبرام اتفاقيات وثيقة لمجابهة الإرهاب على ضفتي الحدود، حتى لا تُتاح لهذه الشرذمة الباغية فرصة النيل من أمن البلدين واستقرارهما.
وها هنا تتجلى أهمية التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف بين الأجهزة الأمنية في البلدين، في منظومة متكاملة تتيح استشراف التهديدات المشتركة والتصدي لها بعزمٍ موحد، ومن هذا المنطلق، تُمثل زيارة اللواء باقري منعطفاً محورياً في تعزيز أواصر التعاون في هذا المضمار، آملين أن تنقشع غيوم التهديدات الإرهابية عن سماء البلدين في المستقبل القريب.
كما أن توثيق عُرى التعاون الأمني ومكافحة الإرهاب، من شأنهما أن يُرسيا دعائم الثقة المتبادلة ويُفسحا المجال أمام آفاقٍ أرحب من التعاون في شتى الميادين.
وبحكم عضوية إيران وباكستان في منظمة شنغهاي للتعاون، يتسنى لهما أن يُشركا سائر دول الجوار في ثمار إنجازاتهما الأمنية في مضمار مكافحة الإرهاب تحت مظلة هذه المنظمة الإقليمية، ولا مراء في أن التعاضد الجماعي في مواجهة هذه التحديات، سيُفضي إلى سدّ المنافذ وإحكام الخناق على تحركات الإرهابيين، وإن كانت المواجهة المباشرة مع الجماعات الإرهابية قد تُسهم في كبح جماح هذه التهديدات، إلا أن اقتلاع هذه الآفة الأمنية من جذورها، يستدعي حلولاً أكثر شمولاً ونفاذاً إلى صميم المشكلة".
وفي هذا المضمار، استفاض اللواء باقري، في خضمِّ لقائه المثمر مع قائد الجيش الباكستاني، في استعراض أواصر التعاون العسكري المتين بين إيران وباكستان في ميادين التدريب والدفاع، مؤكداً أن توطيد هذه الروابط وتوثيقها، ولا سيما في مضمار التدريب وتبادل الخبرات والتجارب، قد غدا ضرورةً مُلحَّةً تمليها مقتضيات العصر، وأشار إلى ما يجمع قادة القوات الجوية في البلدين من تواصلٍ وثيق ودائم، وشدَّد قائلاً: "لا مناص من تسيير دوريات مشتركة متناغمة على ضفتي الحدود، وإجراء مناورات متزامنة تجسّد روح التعاون والتنسيق بين قواتنا".
وقد بادر الجانب الباكستاني بتوجيه دعوةٍ لإيران للمشاركة في المناورات الدولية المرتقبة في ثغر كراتشي، وفي المقابل، أبدى اللواء باقري استعداد إيران التام لخوض غمار مناورات بحرية مشتركة مع الأشقاء في باكستان، ونوَّه رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية بالحضور البارز والمشرِّف لإيران في المعرض الدولي الأخير للأسلحة في باكستان، قائلاً: "نضع كل إمكاناتنا وخبراتنا في خدمة التعاون مع باكستان في مجال التصنيع المشترك للمنظومات الدفاعية".
ومع اقتراب موعد انقضاء العقوبات المفروضة على إيران في شهر أكتوبر المقبل، وما لم يعمد الغرب إلى وضع العراقيل مجدداً في طريق هذا التعاون المثمر، سيتسنى للبلدين أن يرتقيا بمستوى تبادلاتهما العسكرية إلى آفاقٍ أرحب، وأن يلبيا جانباً من احتياجاتهما العسكرية من خلال عقد صفقات تسليحية متبادلة، وقد سبق لإيران أن أبرمت اتفاقاً استراتيجياً مع طاجيكستان بشأن بيع وتصنيع الطائرات المسيَّرة على أراضيها، ونظراً لما تزخر به إيران من قدراتٍ متقدمة وخبراتٍ متراكمة في هذا المضمار، يتيح المجال أمام باكستان للاستفادة من هذه المنظومات التسليحية المتطورة والارتقاء بقدراتها الدفاعية".
تعزيز الأسواق الحدودية
يُشكِّل امتداد الشريط الحدودي بين البلدين لما يربو على تسعمئة كيلومتر، فرصةً ثمينةً لإقامة منظومةٍ متكاملة من الأسواق الحدودية، وقد تدارس مسؤولو البلدين هذا المسعى بعنايةٍ فائقة، وقد أشاد اللواء باقري بهذا التوجُّه الواعد، قائلاً: "إن تفعيل هذه الأسواق سيُمثل خطوةً راسخةً نحو كبح جماح التهريب، وإرساء دعائم النشاط التجاري المشروع".
وقد تبوَّأ إنشاء الأسواق الحدودية مكانةً مرموقةً في سُلَّم أولويات إيران خلال السنوات المنصرمة، حيث أثمرت جهودها عن إقامة تعاونٍ وثيق في هذا المضمار مع تركمانستان وأذربيجان وتركيا والعراق، ومع إحياء هذه التجربة الرائدة على الحدود المشتركة مع باكستان، ستشهد الحركة التجارية بين رجال الأعمال والمستثمرين المحليين نهضةً غير مسبوقة، ونظراً لما تعانيه المدن الحدودية في كلا البلدين من شظف العيش، فإن تدشين هذه الأسواق سيُفضي إلى تنشيط عجلة الاقتصاد وفتح آفاقٍ جديدة للكسب المشروع، فضلاً عن سدّ المنافذ في وجه المتربصين من مهربي البضائع.
وإلى جانب النهوض بالأسواق الحدودية، اكتسبت المسارات العابرة أهميةً متعاظمةً لدى دول المنطقة في الآونة الأخيرة، وتضطلع إيران، بحكم موقعها الاستراتيجي على مفترق هذه الممرات الحيوية، بدورٍ محوري في تيسير حركة التجارة بين المشرق والمغرب، وبمقدور إيران وباكستان، وهما ركيزتان أساسيتان في مبادرة "طريق الحرير" الصينية، وعضوان فاعلان في شبكة السكك الحديدية الممتدة من قلب آسيا الوسطى إلى شواطئ المحيط الهندي وضفاف بحر قزوين، أن تتبوَّأا مكانةً مرموقةً في خارطة التجارة العالمية عبر تطوير بُناهما التحتية للسكك الحديدية، وقد خُطِيَت خطواتٌ واثقة في هذا السبيل.
ولكي تؤتي هذه الممرات ثمارها المرجوَّة بكفاءةٍ أعلى، لا محيد عن توفير مظلةٍ أمنية شاملة على امتداد المسارات العابرة، وهو ما يمكن لإيران وباكستان أن تنهضا به خير نهوض، فكلما توطدت أركان الأمن والاستقرار، انسابت حركة التجارة والنقل في أرجاء المنطقة بيُسرٍ وسلاسة، ومن جانبٍ آخر، فإن تجسيد مشروع "خط أنابيب السلام" لنقل الغاز الإيراني إلى باكستان على أرض الواقع، من شأنه أن يُفضي إلى توثيق عُرى التعاون بين البلدين في صون أمن حدودهما المشتركة".
أفغانستان: محورٌ جوهريٌ في المباحثات
تبوَّأت القضية الأفغانية مكانةً محوريةً في المداولات الرفيعة بين اللواء باقري وكبار المسؤولين الباكستانيين، حيث أجمع الطرفان على ضرورة توطيد دعائم السلام وإرساء أركان الاستقرار في الساحة الأفغانية.
وفي ظلِّ ما تشهده أفغانستان من اضطراباتٍ سياسية وتقلباتٍ اقتصادية منذ اعتلاء حركة طالبان سُدَّة الحكم في أغسطس 2021، تتعاظم الهواجس الأمنية لدى إيران وباكستان تجاه جارتهما المشتركة، وقد سعى البلدان، عبر المحافل الإقليمية، إلى مدّ يد العون لأفغانستان بُغية استعادة عافيتها واستقرارها، ومن هذا المنطلق، كلما ازداد التناغم بين البلدين في هذا المضمار، تعاظمت قدرتهما على درء شرور الاضطرابات الأفغانية عن أراضيهما.
وثمة عاملٌ جوهريٌ آخر يدفع إيران وجارتها الشرقية نحو توثيق عُرى العلاقات الثنائية، ألا وهو تحوُّل البوصلة الباكستانية عن مدارها الغربي، فقد كانت باكستان، حتى عهدٍ قريب، تدور في الفلك الأمريكي لاعتباراتٍ سياسية وأمنية، وكانت ضغوط واشنطن تقف حجر عثرةٍ في طريق التقارب بين إسلام آباد وطهران، بيد أن العلاقات الباكستانية-الأمريكية، قد اعتراها فتورٌ ملحوظ خلال العامين المنصرمين.
وفي خضمِّ التحولات الجيوسياسية المتسارعة على الساحة الدولية، مالت الولايات المتحدة نحو توطيد أواصر التعاون مع الهند، ما أفضى إلى انعتاق باكستان من المدار الغربي وانحيازها بصورةٍ متزايدة نحو محور التقارب مع الصين وسائر القوى الشرقية، وعليه، فإن هذا التباعد المتنامي بين إسلام آباد والغرب، يُتيح فرصةً سانحةً لتعزيز أطر التعاون بين البلدين الجارين على شتى الأصعدة.
وقد أثبتت التجارب أن القوى الأجنبية لن تُسهم في تبديد غيوم الأزمات أو إرساء دعائم الأمن في المناطق الأخرى، ومن ثَمَّ يتسنى لإيران وباكستان، بتضافر جهودهما وتوحيد مساعيهما، تذليل العقبات وصون مصالحهما بمنأىً عن التدخلات الخارجية".