الوقت - تتجلّى أوجه التشابه الجوهرية بين المواجهة الأخيرة والاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية عام 1982، في طبيعة الأهداف التي رسمها الكيان الصهيوني لعملياته العسكرية، على الرغم من التباين الملحوظ في الدوافع المحرِّكة لإشعال فتيل الحرب، والنتائج المترتبة على كلا الطرفين المتنازعين.
غير أنَّ إجراء مقاربة تحليلية سريعة بين الحرب الأولى (1982) والثالثة (2024)، يكشف بجلاء عن المنحى التصاعدي في تعاظم قدرات المقاومة اللبنانية، ويُبرز حجم الانتصار الاستراتيجي غير المسبوق الذي حقّقه حزب الله في المواجهة الأخيرة.
أوجه التشابه والاختلاف بين الحربين الأولى والثالثة
في سياق العدوان الصهيوني على لبنان عام 1982، أفصح الكيان المحتل عن غايته الاستراتيجية المتمثلة في تأمين حدوده الشمالية (الجليل الأعلى)، عبر تقويض البنية العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي اتخذت آنذاك من الأراضي اللبنانية منطلقاً رئيسياً لعملياتها.
في تلك الحقبة، أعلن مناحيم بيغن، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، عن مخططه الرامي إلى إقصاء الوجود الفلسطيني إلى عمق 40 كيلومتراً من الحدود، وصولاً إلى تخوم منطقة العوالي خارج مدينة صيدا، وذلك عبر استئصال المقاومة من الجغرافيا اللبنانية.
وفي قراءة تحليلية مقارنة، لا يُلحظ تباين جوهري في المنظور الاستراتيجي الذي رسمه الکيان بين المواجهة الثالثة (2024)، وسابقتيها الأولى (1982) والثانية (2006)، فالثوابت الصهيونية في المواجهات الثلاث تمحورت حول تصفية المقاومة وتفكيك بنيتها، مع دفع قواتها شمال الليطاني، وتوفير مظلة أمنية للمستوطنات الشمالية.
بيد أن ثمة فوارق استراتيجية جوهرية بين حرب "سلام الجليل" (1982) والمواجهة الأخيرة "سهم الشمال" (2024)، يمكن تلخيصها في ثلاثة محاور رئيسية:
المحور الأول: افتقار المقاومة الفلسطينية آنذاك للعمق الاستراتيجي في النسيج اللبناني، وإدراكاً منها لعدم توقف الزحف الإسرائيلي عند "نهر الأولي" في أقصى الجنوب اللبناني قرب مدينتي صيدا والنبطية، اتخذت قراراً تكتيكياً بالانسحاب لتعزيز خطوطها الدفاعية.
المحور الثاني: المشهد اللبناني آنذاك، بما تضمنه من تشكيلات مسلحة مناهضة لوجود منظمة التحرير على الأراضي اللبنانية، منح الكيان الصهيوني هامشاً أوسع للمناورة، مع تضاؤل احتمالات مواجهة مقاومة شعبية شاملة، ما رفع سقف توقعاتهم من هذا العدوان مقارنةً بالمواجهات اللاحقة.
المحور الثالث: محدودية القدرات العسكرية للمقاومة آنذاك في مواجهة الآلة العسكرية الصهيونية، وهو ما عزته قيادة منظمة التحرير إلى عنصر المباغتة، والفجوة في القدرات العملياتية.
نتائج الحربين
بعد استعراض المنظومة الأهدافية للکيان في كلتا المواجهتين، وتحليل نقاط التماثل والتباين بينهما، يمكننا تقديم تقييم علمي منهجي لمعايير النصر والهزيمة، وفق مقاربة تحليلية مقارنة تستند إلى المخرجات العسكرية والسياسية، فعلى الصعيد السياسي:
المحور الأول - يتجلى تباين جوهري في مستوى التقدم الميداني الذي أحرزه الجيش الصهيوني بين المواجهتين الأولى والثالثة، ففي حرب 1982، تجاوز الكيان سقف أهدافه المعلنة في السيطرة على منطقة نهر الأولي، مواصلاً زحفه نحو العاصمة بيروت، وعلى الرغم من المقاومة التي أبدتها المجموعات المقاتلة الإسلامية والقوى الوطنية اللبنانية في المدخل الجنوبي للعاصمة بمنطقة خلدة، ولاحقاً في محيط كلية العلوم، إلا أن الکيان تمكن من اختراق العاصمة بعد حصار استمر ستة أيام، مستخدماً سياسة الأرض المحروقة عبر غارات جوية مكثفة.
أما في المواجهة الأخيرة، فقد انقلبت المعادلات الاستراتيجية بشكل جذري، حيث أخفق الکيان في تحقيق هدفه التكتيكي بالوصول إلى نهر الليطاني، بل تجاوز إخفاقه ذلك إلى عجزه عن تثبيت سيطرته على القرى الحدودية.
وعلى الرغم من الكثافة النارية الجوية غير المسبوقة التي استهدفت هذه القرى على مدار شهرين من المواجهة المباشرة، إضافةً إلى 14 شهراً سبقتها، إلا أن صمود مقاتلي المقاومة وبسالتهم الميدانية، أجبرت الکيان على التقهقر بعد تكبده خسائر بشرية فادحة.
المحور الثاني - شهدت الحرب الأولى (1982) إبرام اتفاقية بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية، سمحت بموجبها للمقاتلين الفلسطينيين، بقيادة ياسر عرفات والقيادات المركزية للمنظمة، بالانسحاب من بيروت مع أسلحتهم الخفيفة، وبذلك حقّق الکيان هدفه الاستراتيجي في تقويض البنية التحتية للمنظمة، وإزاحة التهديد المقاوم عن حدوده الشمالية، وعلى وقع هذا الإنجاز العسكري الميداني، سارع الکيان إلى محاولة قطف ثمار انتصاره عبر تحصيل مكاسب سياسية:
أولاً - طالب الکيان بنشر قوات متعددة الجنسيات للإشراف على تنفيذ الاتفاقية (21/08/1982).
ثانياً - مهّد الطريق، تحت وطأة الدبابات، لوصول حليفه المقرب من حزب الكتائب اللبناني، بشير الجميّل، إلى سدة الرئاسة، غير أن رئاسته لم تدم سوى ثلاثة أسابيع، إذ لقي مصرعه في تفجير، ليخلفه شقيقه أمين الجميّل في منصب رئاسة الجمهورية.
ثالثاً - استثمر الکيان تفوقه العسكري لإخراج منظمة التحرير من لبنان، وفرض مفاوضات لعقد اتفاقيات أمنية بوساطة أمريكية لضمان أمن حدوده الشمالية، وأثمر ذلك عن توقيع اتفاقية 1983 المذلة التي لبّت مطالب "إسرائيل" بالكامل، وحوّلت الجيش اللبناني إلى قوة شرطية تخدم أمن المحتل.
وبمقارنة تلك الاتفاقية مع اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، الذي أُجبر الصهاينة على قبوله مرغمين، يتجلى حجم هزيمة الکيان وانتصار المقاومة بوضوح، حيث نصت المادة الأولى من اتفاق 17 أيار 1983 (قبل إلغائه)، على إنهاء حالة الحرب بين لبنان و"إسرائيل"، مُخرِجةً لبنان كلياً من دائرة الصراع، أما الاتفاق الحالي فيصف الأمر بـ"وقف الأعمال العدائية" حصراً، ما يؤكد استمرار دور لبنان كقلعة للمقاومة، وركيزة أساسية في مواجهة "إسرائيل".
کما حددت المادة الثالثة من اتفاق 17 أيار، منطقةً عازلةً أمنيةً داخل الأراضي اللبنانية حتى ضواحي صيدا لمصلحة الصهاينة، مقيّدةً السيادة اللبنانية لمصلحة المعتدي، كما ألزم ملحق الترتيبات الأمنية السلطات اللبنانية، باتخاذ إجراءات أمنية خاصة لرصد الأنشطة المعادية، ومنع دخول أو تحرك المسلحين في المنطقة الأمنية وغيرها، وذهبت المادة الخامسة إلى حد حظر أي دعاية معادية.
أما في الحرب الأخيرة، فبينما سعى الصهاينة في بدايتها لإضافة بنود جديدة للقرار 1701، لم يحققوا أي مكاسب في هذا الصدد، بل على العكس، فإن العودة السريعة للبنانيين إلى قراهم الحدودية، مقابل عدم عودة المستوطنين إلى المناطق الشمالية، يشير إلى تشكل منطقة عازلة فعلية داخل الأراضي المحتلة.
ختاماً، حققت المقاومة في المواجهة الأخيرة نصراً استراتيجياً كبيراً عبر منع الکيان من تحقيق أهدافه المعلنة، وحماية كل شبر من الأراضي اللبنانية، والحفاظ على حق الدفاع عن النفس وسيادة لبنان، ومنع تدخل الکيان في الشؤون الداخلية اللبنانية، أو فرض رئيس وحكومة تابعة، وهذا النصر يُعدّ ثمرة تضحيات آلاف الشهداء من حزب الله، وعلى رأسهم القائد الأسطوري للمقاومة اللبنانية الشهيد السيد حسن نصر الله.