الوقت - سلّط الخبير في شؤون المنطقة الدکتور سعد الله زارعي الضوء على سلسلة الهجمات المنسقة التي استهدفت محافظة حلب السورية منذ مساء الخميس الماضي، والتي امتدت حتى تخوم المدينة الغربية، ما أثار جملةً من التساؤلات الملحة.
وعلى الرغم من أن العمليات العسكرية حملت توقيع "هيئة تحرير الشام" - وهي كيان إرهابي مركب من اندماج أربعة فصائل متطرفة - إلا أن المراقبين، بمن فيهم المعارضون للحكومة السورية أنفسهم، يؤكدون وجود دعم خارجي متعدد المصادر، ويعزز هذا التحليل الاستخدام الممنهج للطائرات المسيرة المتطورة والمركبات المدرعة الحديثة من قبل العناصر المهاجمة، ما يشير بوضوح إلى تورط قوى إقليمية ودولية في تأجيج الصراع.
لا يكتنف الغموضُ مسألةَ التدخلات الخارجية في مجريات الأحداث التي شهدها شمال سوريا خلال الأيام الثلاثة المنصرمة؛ إذ يتجلى الدور التركي العسكري في هذه المواجهات بصورة لا تقبل اللبس، فقد تبنّت أنقرة، عبر المسار الدبلوماسي الرسمي في مباحثات أستانة الممتدة لسنوات، مهمة تمثيل هيئة تحرير الشام المصنفة إرهابياً والتحدث باسمها، مضطلعةً بهذا الدور التمثيلي في المفاوضات على مدار السنوات السابقة، ويُعزز من ثبوت مسؤوليتها في هذا الهجوم، التواصل الجغرافي المباشر لمحافظة إدلب مع الأراضي التركية.
وفي السياق ذاته، يبرز الدور الصهيوني جلياً في المشهد، حيث كشفت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، نقلاً عن مصدر عسكري رفيع المستوى، أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لن تقتصر عملياتها على استهداف المستودعات والشحنات العسكرية المتجهة إلى لبنان، بل ستُكبّد سوريا ثمن دعمها لحزب الله.
وعليه، فإن العملية العسكرية ضد حلب، تحمل في طياتها بصمات تخطيط وإخراج وتمويل مشترك من قِبل أنقرة وتل أبيب، مع توظيف العناصر الإرهابية المعهودة، سعياً نحو هدف استراتيجي محدد، ويتمثل هذا الهدف، بعبارة موجزة، في إرغام حكومة الرئيس بشار الأسد على الرضوخ، أو بتعبير أكثر دقةً، إجبار سوريا على التخلي عن نهج المقاومة في مواجهة المخططات التوسعية الغربية-الصهيونية.
بيد أن التحليل المتعمق لجوهر هذا المخطط ومآلاته، يرجّح كونه مشروعاً صهيونياً خالصاً، تم تفويض تنفيذه لطرف آخر بالوكالة، والذي باشر تنفيذه مستثمراً قدراته العسكرية وموظّفاً العناصر التكفيرية الإرهابية، وتستوقفنا في خضم هذه التطورات، جملة من النقاط الجوهرية:
1. لقد شهد يوم الخميس الماضي، في أعقاب إذعان الكيان الصهيوني لوقف إطلاق النار في عدوانه على لبنان - متأثراً بالقدرة العسكرية الفائقة لحزب الله الذي حوّل النطاق الممتد من الحدود اللبنانية الجنوبية حتى تل أبيب إلى جحيمٍ مستعر يوم الأحد المنصرم - اندلاع هجومٍ إرهابي على الأراضي السورية في موضعٍ استراتيجي أتاح تنفيذه بإسنادٍ خارجي كثيف.
استغلت "هيئة تحرير الشام" الإرهابية حالة الإنهاك التي اعترت القوات السورية جرّاء التأهب العسكري المتواصل منذ سبتمبر 2016 وحتى يومنا هذا، وثماني سنوات من الحراسة المستمرة لحلب، ولا سيما في النطاق الممتد من غربها حتى شرق إدلب، وعلى الرغم من إخفاقها في إحكام السيطرة على كامل المنطقة الفاصلة بين حلب وإدلب، إلا أنها نجحت في الاستيلاء على زهاء عشرين قرية، وشقّت ممراً ضيقاً باتجاه حلب، متقدمةً حتى مسافة ثلاثة كيلومترات غرب المدينة، وفي السياق ذاته، زعمت اختراق المدينة والسيطرة على أحياء في قطاعها الغربي، مستندةً في ادعاءاتها إلى تحركات بعض عناصرها السابقين ومرتبطيها داخل النسيج الحضري لحلب.
بيد أن الوقائع الميدانية تؤكد أن تحرك "هيئة تحرير الشام" - التي ورثت راية "جبهة النصرة" خلال السنوات الست أو السبع المنصرمة - وإن لم يكن وليد اللحظة، إلا أنه لم يبلغ من القوة ما يكفي لزعزعة سيطرة الجيش السوري، ومع ذلك، يتعين عدم استبعاد احتمالية تصاعد حدة المواجهات في الأيام المقبلة، مع إمكانية قيام العناصر الإرهابية، بدعمٍ تركي، بالدفع بتعزيزات إضافية إلى المنطقة، بغية تعقيد المشهد العسكري على القوات السورية.
إن مآل تدخل "هيئة تحرير الشام" الإرهابية في المعركة، جليٌّ لا يكتنفه غموض، فالجيش السوري يمتلك مقومات السيطرة والاحتواء، كما أنه في حال اقتضت الضرورة العسكرية، ستعاود جميع التشكيلات التي خاضت غمار المعارك في هذه المنطقة بين عامي 2012 و2016، والتي تدرك تضاريسها شبراً شبراً، الانخراط في الميدان مجدداً، لتُحكم قبضتها على المنطقة بوتيرة سريعة، ومن هذا المنظور العسكري، لا يساور القيادة قلقٌ ذو بال، غير أن ثمة مخاوف غير عسكرية من زاوية أخرى تستدعي الرصد والمتابعة الحثيثة.
2. في مقام التحليل الموضوعي، لا نبتغي استثارة حفيظة جارتنا الغربية، ولا نميل إلى تجاوز حدود النقد الموضوعي في توجيه الملاحظات إليها، بيد أن المعطيات الميدانية والسياسية تؤكد أن السلوك التركي في الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2015 تماهى من حيث المنهجية والغايات الاستراتيجية، مع توجهات جبهة النصرة - التي تحولت لاحقاً، عقب انشطارها التنظيمي، إلى ما يُعرف بـ"هيئة تحرير الشام"، فكلا الطرفين سعى، بصورة لا تقبل التأويل، إلى تقويض أركان الدولة السورية، وكلاهما وقع في شَرَك الوهم بإمكانية "توظيف" الآخر كأداة لتحقيق مآربه الخاصة، ثم إقصائه من المشهد السياسي والعسكري.
راودت "هيئة تحرير الشام" أطماع استغلال الدعم التركي كأداة لتأسيس "كيان خلافي"، يُرسي دعائم "نظام شبه عثماني ذي صبغة عربية"، يطمح في نهاية المطاف إلى بسط نفوذه على أنقرة ذاتها، وفي المقابل، استحوذ على تفكير أردوغان وهم استثمار العناصر الإرهابية كأداة لإسقاط الحكومة السورية، ثم الاستفادة من حالة التشظي العميق بين الفصائل المسلحة المناوئة لدمشق لتصفيتها، وتنصيب حكومة تابعة تُقر بمشروع تفكيك المناطق الشمالية السورية وإلحاقها بالأراضي التركية.
مع حلول عام 2016، تبخرت هذه التطلعات لكلا الطرفين، حينها سعى أردوغان، عبر الانخراط في "مسار أستانة التفاوضي" - أو ما يُصطلح عليه غربياً بـ"صيغة أستانة"- إلى انتزاع موطئ قدم في مسارٍ لم يكن له دور في هندسته، غير أن السلوك التركي، في محطات عديدة، نأى عن الوفاء بالتزاماته المقررة في محادثات أستانة، إذ كانت أنقرة ترفض جوهرياً التفكيك المبكر للجماعات الإرهابية التي ظلت تعتبرها "رصيداً استراتيجياً".
وعليه، وبالرغم من موافقتها في أحد اجتماعات أستانة عام 2017 على تنفيذ مقررات نزع سلاح التنظيمات الإرهابية في إدلب، وإعادة بسط السيادة السورية عليها خلال نصف عام، إلا أن ترکيا نكصت تعهداتها، ما أفضى إلى استمرار نهج التسليح لهذه الجماعات.
وفي غضون العام المنصرم، طرحت أنقرة مبادرة "إعادة إحياء القنوات الدبلوماسية مع دمشق"، وأرسلت وفوداً رفيعة المستوى إلى العاصمة السورية، بيد أنها أحجمت عن تقديم أي التزامات ملموسة بشأن إعادة ضبط وضعية العناصر الإرهابية في إدلب، أو سحب قواتها العسكرية من الباب ومنبج والقامشلي، وعليه، لم تُفضِ هذه المساعي الدبلوماسية إلى نتائج جوهرية، لنشهد في الأيام الأخيرة عملاً عسكرياً ضد حلب، وخرقاً صارخاً جديداً للسيادة السورية.
3. تکشف القراءة التحليلية للمشهد الراهن، عن اضطلاع الكيان الصهيوني بدور مزدوج في هذا المشروع، يجمع بين صفتي "المُوكِل" و"المُشغِّل"، ويأتي انعقاد المجلس الوزاري الأمني المصغر (الكابينت) في ساعات المساء المتأخرة من يوم الخميس الماضي، عقب الهجمات الإرهابية على حلب مباشرةً، ليكشف ليس فقط عن المحورية الاستثنائية لهذه التطورات في المنظور الإسرائيلي، بل ليؤكد أيضاً على الدور الداعم للكيان في هذا المخطط.
وتشير الوقائع الميدانية إلى أن الكيان الصهيوني، الذي اضطر إلى إيقاف عملياته العدوانية في لبنان مقراً بهزيمته أمام حزب الله، يجد نفسه اليوم في موقفٍ يستدعي وقف حربه العبثية على غزة، وفي ضوء هذه المعطيات، يسعى هذا الكيان حثيثاً إلى إشعال فتيل الاضطراب في أحد أهم أركان محور المقاومة، وتحديداً في سوريا، الداعم الاستراتيجي الأبرز للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية، غير أن المشاركة المباشرة في زعزعة الاستقرار السوري، تفتقر إلى المقبولية الداخلية في أعقاب الإخفاقات المتتالية في لبنان وغزة، فضلاً عن كونها ستثير موجة معارضة إقليمية ودولية، وعليه، عمد الكيان الصهيوني إلى تبني استراتيجية تفويض المشروع، وتمويل أجزاء من تكاليفه.
وقد أماطت رسالة الشكر الشفهية التي وجهها القائد الميداني لهيئة تحرير الشام إلى حكومة الاحتلال، والتي حرصت وسائل الإعلام الإسرائيلية على بثها، اللثام عن عمق هذه العلاقة التكاملية، كما كشفت عن الرغبة الإسرائيلية في إظهار هذا الترابط العملياتي، ويتجلى هذا التناغم في تطابق الأسلوب العملياتي للعناصر الإرهابية في المحور الممتد من إدلب إلى حلب، مع التكتيكات القتالية الإسرائيلية في هجومها البري الأخير على لبنان، من حيث اعتماد مبدأ التقدم الخطي نحو الهدف النهائي، مع تجنب الاشتباك في النقاط الساخنة الواقعة بين نقطتي الانطلاق والوصول.
وفي المحصلة، وإن لم يكن هذا المشروع ثمرة تخطيط مشترك بالمعنى التقليدي، إلا أنه يخدم، بلا ريب، منظومةً من الأهداف المتقاطعة، فالكيان الصهيوني يسعى إلى معاقبة سوريا، باعتبارها أحد المحددات الرئيسية في نجاح المقاومة اللبنانية في حربي 2006 و2023، وتوجيه رسالة تحذيرية بشأن التكلفة الباهظة لاستمرار هذا الدعم الاستراتيجي.
وفي المقابل، تسعى أنقرة إلى إحداث تحول جذري في الموقف السوري تجاهها، وإجبار دمشق على الإقرار بمحورية الدور التركي في المعادلات الإقليمية، التي تُعدّ سوريا طرفاً أساسياً فيها، وعليه، لا نجانب الدقة والصواب إذا وصفنا المشهد الراهن بأنه تجسيد لحركة "تآزرية" بامتياز.
4. يتجلى الموقف الاستراتيجي لمحور المقاومة في المشهد الراهن بوضوح لا يشوبه غموض؛ حيث تتبنى دولتان، في المحورين الشمالي والجنوبي لسوريا، استراتيجية الضغط الكماشي على الحليف الاستراتيجي الجوهري للمقاومة، في محاولة لإرغامه على الرضوخ لإرادتهما.
وفي هذا السياق، تنظر المقاومة إلى مسألة دعم حليفها الاستراتيجي، باعتبارها التزاماً أصيلاً وواجباً محورياً في مواجهة الأطراف المعتدية، سواء تمثلت في التنظيمات الإرهابية أم في الدول المتجاوزة للحدود والأعراف الدولية، ويأتي هذا النهج في إطار المشروعية الكاملة - بعيداً عن أي نزعة عدائية - مع احتفاظه بفاعلية استثنائية في آنٍ واحد، وهو مسارٌ استراتيجي خضع لاختبارات متعددة، وأثبت جدارته وحقّق انتصارات متتالية في كل المحطات السابقة.