الوقت - في مشهدٍ يدمي القلوب، ارتقت "بانا أمجد بكر البوم"، الفتاة الفلسطينية القاطنة في قرية قريوت، إلى العُلا قبل انطلاق العام الدراسي بيومين، حين اخترقت رصاصات الغدر الصهيوني نافذة غرفتها لتخطف روحًا بريئةً.
يسترجع "أمجد بكر"، والد الشهيدة، بقلبٍ يعتصره الألم، تفاصيل اللحظات المفجعة التي شهدت فيها عيون العائلة رحيل فلذة كبدهم إلى جنان الخلد.
حيث يروي الوالد المكلوم: كانت ابنتي تجلس مع شقيقاتها في غرفتهن، تظللها سكينة البيت وأمانه، غير أن رصاص الاحتلال الغادر لم يراعِ حرمة الطفولة. فاخترقت الرصاصة الغاشمة جدران الأمان، متسللةً عبر النافذة، لتستقر في صدر زهرتي البريئة. كانت بانا، ذات الثلاثة عشر ربيعًا، تحمل في قلبها الصغير أحلامًا كبيرةً كسائر الفتيات؛ عشقت الريشة والألوان، وتألقت في المحافل الاجتماعية والأنشطة المختلفة، إلا أن رصاصة الظلم الصهيوني اغتالت معها كل تلك الأحلام والطموحات الواعدة".
يخيم شجنٌ عميق على أروقة ثانوية قريوت، حيث اعتادت أسماع الطالبات على الإنصات بخشوع لصوت "بانا" العذب، وهي تتلو آيات الذكر الحكيم في الاصطفاف الصباحي.
وبدموعٍ تنهمر من العيون، تستحضر رفيقات دربها ذكريات الطفولة المشتركة، مؤكدات بعزيمةٍ لا تلين أن هذه الجريمة النكراء لن تزرع الخوف في قلوبهن، ولن تثنيهن عن مواصلة المسير على درب العزة والكرامة.
شهادات مؤثرة: رفيقات درب الشهيدة يروين قصتها
في لحظةٍ مُثقلة بالأسى والمرارة، انسابت كلمات رفيقة الشهيدة، حيث قالت: ما هو الذنب الذي اقترفته صديقتي لتُزهق روحها؟ كانت درّة تاجنا في الصف، ونموذجاً للتفوق والتميّز. نسجت الأيام بيننا وشائج صداقةٍ منذ براءة الطفولة الأولى. أحببتها حباً يسكن شغاف القلب؛ لم تعرف قلبها يوماً طريقاً للحقد، ولم تكدّر صفو أحد، بل كانت نبعاً للمودة والمحبة. سيظل طيفها يسكن ذاكرتنا ما حيينا. ورغم فداحة المصاب، فلن يجد الخوف من العدو إلى قلوبنا سبيلاً، وإن كان رحيل عزيزتنا جرحاً غائراً يدمي الفؤاد. إن وطأة هذا المصاب لتفوق طاقة الاحتمال".
وفي شهادةٍ أخرى تفيض ألماً، تروي إحدى رفيقاتها: اغتال الصهاينة براءتها وأحلامها الغضّة. فليتغمدها الرحمن برحمته الواسعة، وليُسكنها أعالي الفردوس. كانت نسمةً عطرةً، ونفساً طاهرةً، وخُلقاً رفيعاً. كانت بانا سبّاقةً إلى مواطن الخير؛ فتاةٌ في عمر الزهر، طاهرة السريرة، متقدة الهمة. وكان للقرآن في قلبها منزلةٌ خاصة، حتى إن يوم استشهادها كان موعداً مع تثبيت جزأين من كتاب الله العزيز.
وها هي ثانوية الفتيات في قرية قريوت، تلك البقعة الحزينة جنوب نابلس، تستقبل عامها الدراسي متوشحةً بثوب الحداد على فقيدتها الغالية. ورغم غياب بانا أمجد بكر البوم الجسدي، إلا أن روحها الطاهرة ما زالت تحوم في أرجاء المدرسة، تداعب ذكريات معلماتها ورفيقات دربها.
عاد التلاميذ الفلسطينيون إلى رحاب العلم مع إشراقة العام الدراسي الجديد، غير أن مقعد بانا ظلّ شاهداً صامتاً على الفقد، لم يبقَ منها سوى صورٍ تحكي قصتها، وزهورٍ تعانق ذكراها، وكتبٍ تحمل بين طياتها أحلامها. إن مأساة بانا البوم ليست إلا فصلاً من ملحمة حزينة يعيشها آلاف الطلاب في غزة، الذين حال الاحتلال الغاشم بينهم وبين تحقيق أحلامهم وآمالهم.