الوقت- بعد مرور 30 عاماً على اغتيال إسحق رابين، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، يعيش المجتمع الصهيوني اليوم حالة من التوتر أكثر حدة مما كان عليه في عهده، وهي مسألة يمكن أن تؤدي إلى تصفية حسابات داخلية، وكان إسحاق رابين سياسيًا وجنرالًا في الجيش الصهيوني وهو خامس رئيس وزراء للكيان الصهيوني وتم انتخابه مرتين.
كان الحدث السياسي الأهم في "إسرائيل" خلال ولايته الثانية كرئيس للوزراء هو التوقيع على اتفاقيات أوسلو، التي أعطت الفلسطينيين الحق في إنشاء منظمة حكم ذاتي فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، وكان رابين يهوديًا صهيونيًا بولنديًا وكان قائدًا للجيش الصهيوني خلال حرب الأيام الستة بين العرب و"إسرائيل" في يونيو 1967، واستطاع التغلب على الجيوش العربية واحتلال القدس المركز المقدس لأتباع المسيحية واليهودية والإسلام، وبعد النصر قرأ التوراة مع جنود صهاينة آخرين بجانب الحائط البراكي (ندبا) للشكر.
وفي الولاية الثانية لرئاسة حكومة رابين، بلغت الخلافات الداخلية في الأراضي المحتلة ذروتها في إطار التيارين اليساري واليميني، وواجه بشكل خاص معارضة واسعة النطاق من المتطرفين الصهاينة، وأخيراً في الـ 4 من تشرين الثاني (نوفمبر) ، قُتل على يد شاب يبلغ من العمر 25 عامًا، واغتيل ييجال عمير في تل أبيب.
ربما لم يكن اغتيال إسحق رابين قضية غريبة وغير متوقعة في حد ذاتها، لأنه بالإضافة إلى الانقسامات الداخلية الشديدة للصهاينة خلال حكم رابين، لا ينبغي للمرء أن ينسى أن مجتمع الكيان الصهيوني هو مجتمع ذو طبيعة عسكرية.
إن أسس تكوين المجتمع الصهيوني هي الأسس والقضايا التي تعتمد على النزعة العسكرية، وهي القضية التي تصل بمستوى أعمال العنف في مجتمعات مثل المجتمع الصهيوني إلى أعلى مستوى ممكن، وهو مستوى غير مبرر.
النزعة العسكرية أو العقيدة العسكرية هي اعتقاد أو رغبة حكومة أو أمة بأن الحكومة يجب أن تحافظ على قدرتها العسكرية قوية وتستخدمها بقوة لتوسيع مصالحها أو قيمها الوطنية.
وفيما يتعلق بالكيان الصهيوني، تجدر الإشارة إلى أن النزعة العسكرية لعبت دورًا مهمًا في الأيديولوجيات التوسعية أو الإمبريالية لهذا الكيان، لكن أهم ما يمكن أن يقال عن مثل هذا المجتمع هو أحادية الجانب في عملية حل الخلافات في نظامه الفكري، وبعبارة أكثر وضوحا، فإن حل المشاكل في الكيان الصهيوني هو عملية مثل القتال.
ووفقًا للقواعد الغربية، عندما يشترك شخصان في مبارزة، لا توجد طريقة لأي من المقاتلين للانسحاب أو الهروب، ولكن يجب على كلا الجانبين محاولة القضاء على بعضهما البعض، فيقتل أحدهما وينجو الآخر.
وهذه الأمر موجود في المجتمع الصهيوني وعملية الاغتيال التي قام بها اليميني المتطرف ييغال عمير في الـ 4 من تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، هي نتاج هذه الصفة التي تميز بها المجتمع الصهيوني في حل المشاكل، والتي أدت إلى اغتيال اسحق رابين.
اليوم، يعيش مجتمع الكيان الصهيوني الوضع نفسه الذي كان عليه في عام 1995، ورغم التحذيرات بشأن عودة نتنياهو والتيار اليميني المتطرف الذي رافقه إلى السلطة، إلا أن نتنياهو تمكن من الحصول على الأغلبية في انتخابات الكنيست الأخيرة والعودة إلى منصب رئيس الوزراء اعتبارا من بداية عام 2022، وكما كان متوقعا، فإن عودة اليمين إلى السلطة بقيادة نتنياهو أحيت اتجاها جديدا من الخلافات والصراعات الداخلية بين الصهاينة وزادت بشكل كبير من العنف الكامن بين الصهاينة.
منذ بداية حكومة بنيامين نتنياهو عام 2022، لم يمر يوم دون مظاهرات وصراعات داخلية حادة في الأراضي المحتلة، حتى حذر بيني غانتس، أحد زعماء معارضة نتنياهو، من "حرب بين الأشقاء" في "إسرائيل"، وتصل حدة هذه الخلافات وطبيعتها إلى مستوى أنه رغم وقوع حرب البرزاج مع المقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني، إلا أن الصراعات الداخلية لم تنته، بل زادت من حدة العداء بين الجانبين، بسبب كثرة المستوطنين والصهاينة ونتنياهو وحكومته يعتبرون سبب هذه الحرب ومقتل العديد من سكان الأراضي المحتلة في الحرب بين غزة ولبنان، وتزايد الغضب والكراهية في صفوف حركة المعارضة إلى درجة أن معارضي نتنياهو هددوا في الأشهر الأخيرة باغتياله جسديا عدة مرات.
وحول هذا السياق قال ديفيد هوداك، وهو محام صهيوني وعضو في حركة نتنياهو المعارضة: "الناس مستعدون لحمل السلاح والقتال ضد حكومة نتنياهو... إذا اضطررت لذلك، وإذا دفعوني إلى مثل هذا الموقف، فهذا ما سأفعله"، لقد دخل بنيامين نتنياهو الآن في مبارزة خسرها إسحق رابين، رئيس الوزراء آنذاك، عام 1995، بل يمكن القول إن الوضع الذي يعيشه نتنياهو الآن أصعب بكثير من الوضع الذي كان فيه رابين عندما اغتيل وهو أكثر تعقيدا.
بسبب سياسات نتنياهو، فإن الكيان الصهيوني ليس فقط عالقا في صراع وتوتر داخلي لا نهاية له، بل قضية فلسطين وسكانها الحقيقيون، التي كانت مشكلة إسحق رابين واليوم لا تزال مشكلة نتنياهو، أصبحت بطريقة أكثر تحديا منذ توقيع معاهدة أوسلو لحكومة نتنياهو، لذلك، وبالنظر إلى الغضب الداخلي المتزايد الذي تظهره معارضة نتنياهو في عدائها له، وبالنظر إلى الخوارزمية التي يمتلكها المجتمع العسكري للكيان الصهيوني في حل مشاكله، فإن السؤال هو ما إذا كان بنيامين نتنياهو سينجو من هذه المبارزة أم لا؟
هل ينتقم اسحاق رابين من بنيامين نتنياهو؟
اليوم، يبدو أن شبح رابين يلاحق نتنياهو، فالوضع الداخلي في "إسرائيل" في أسوأ حالاته، على الرغم من الجهود الحثيثة التي يبذلها الأوّل للإبقاء على الدعم الشعبي له، فيما يعجز عن إبقاء الخلافات داخل حكومته تحت السيطرة، ولعل الخلاف العلني بينه وبين وزير الدفاع يوآف غالانت خير دليل على تفلّت الأوضاع في الحكومة، ناهيك عن التهديد الدائم لوزير الأمن ايتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش بالخروج من الحكومة في حال إبرام أي تسوية أو اتفاق مع الفلسطينيين ولو برعاية أمريكية ودولية.
ضربة الحكومة تختلف بشكل جذري عن ضربة انفراط عقد حكومة الطوارئ التي كان أنشأها نتنياهو مباشرة بعد عملية "طوفان الاقصى"، لأنها تضعه في موقف بالغ الحرج أمام الداخل والخارج على حد سواء، ويصبح رأسه مطلوباً من المتشددين والمعارضين على حد سواء.
وفي عودة إلى شبح رابين، فالخوف الذي يعاني منه نتيناهو يتأتى في غالبيته من الشارع الإسرائيلي أكثر منه من إيران وحماس وحزب الله، وليس من المستبعد أن يلقى مصير رابين نفسه في ظل الغضب العارم الذي يختلج صدور أهالي الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، والذين يتهمونه يوماً بعد يوم بأنه المسؤول عن تقريب أولادهم من الموت عبر عرقلة مساعي الإفراج عنهم، وقد أقاموا بالفعل التظاهرات وقطعوا الطرقات وطوقوا منزله أكثر من مرة للتعبير عن غضبهم، فهل من المستبعد أن يعمد أحدهم إلى اغتياله في وقت ما إذا ما فشلت التسوية ولم يعد أحد من الأسرى على قيد الحياة؟ وفي المقابل، من يضمن عدم ظهور إيغال عامير آخر قد يكون أكثر تشدداً، ويعتبر أن إبرام تسوية أو اتفاق مع حماس هو "خطيئة" لا تغتفر، بتجييش من أمثال بن غفير وسموتريتش، فيتم استبدال اسم رابين باسم نتنياهو؟.
حتى الآن يبدو هذا السيناريو مستبعداً قليلاً، ليس لعدم نضوج كل الظروف المؤدية إلى إمكان تحقيقه، بل بسبب التدابير الأمنية المتخذة حول نتنياهو بفعل الحرب على غزة والتهديدات الأخيرة من إيران وحزب الله بتوجيه ضربة قاسية لـ"إسرائيل"، ما أدى إلى "إخفاء" نتنياهو والوزراء في ملاجئ حصينة بعيداً عن أعين الناس، وبالتالي بات من الصعوبة جداً استهدافه.
إضافة إلى ذلك، لن يشكل اغتيال نتنياهو (إذا ما حصل) عقبة أمام الدول للتعاطي مع خليفته الذي من المتوقع أن يتم تعيينه بشكل سريع جداً، وأن يحظى بالدعم الداخلي والخارجي المطلوبين لإعادة الأمور إلى وضع "المقبول"، أي ما كانت عليه قبل تشرين الأول من العام الفائت.
بمعنى آخر، يجد نتنياهو نفسه اليوم أمام وضع أكثر صعوبة مما كان عليه، لأن قلقه على انتهاء حياته السياسية، بات يضاهيه قلقه على حياته الجسدية، وهو أمر لم يعد مجرد فرضية، فهل سيتمكن رابين من الانتقام، أم سيجد نتنياهو نفسه أمام طوف نجاة سيرمى له في اللحظات الأخيرة لإنقاذه من مصير مشؤوم يلوح في الأفق؟ علماً أن كل المؤشرات توحي بأن مستقبله السياسي قد انتهى فعلياً بانتظار الإعلان عن هذا الأمر بشكل رسمي فور انتهاء الحرب على غزة.