الوقت - طوفان الأقصى، كغيرها من حروب المقاومة الفلسطينية السابقة ضد الكيان الصهيوني، تقوم على ثلاث ركائز أساسية هي الميدان والدبلوماسية والشعب، لكن من الناحية النوعية، فهي تختلف جوهريًا عن الحروب السابقة.
ومن الأبعاد المهمة لهذا الاختلاف، نوع العلاقة التي تحكم الميدان والدبلوماسية، فرغم الكثافة غير المسبوقة لمختلف جوانب طوفان الأقصى، مثل كمية الأسلحة المستخدمة من قبل الجانبين، والخسائر الاقتصادية، والخسائر البشرية، وتوسيع نطاق الصراع، والانعکاس العالمي، وما إلى ذلك، فإن العلاقة الموصوفة بين الميدان والدبلوماسية تمكنت من إبقاء حماس في الموقع المتقدم.
وقد بلغت هذه العلاقة ذروتها في مرحلة ما من خلال التحرك في سياق عقلاني ومنطقي، واستطاعت أن تسجل فترةً ثمينةً وفريدةً ومتألقةً لتيار المقاومة، باعتباره تجربةً ناجحةً ورائدةً جداً، تشكلت العلاقة المذكورة في العملية التالية:
1. ثقل الاغتصاب والظلم لـ 75 عاماً، فرغم أن معظم الفلسطينيين الذين شهدوا يوم النكبة عام 1948 والاغتصاب الوحشي لأرض آبائهم وأجدادهم، وكذلك الجرائم المستمرة بعد ذلك، قد رحلوا، ولکن بمرور الوقت استطاعوا أن يرووا لأبنائهم القصة المريرة للاغتصاب والقمع المستمر، واختلطت هذه القصة المريرة بفظائع كل فترة، وأصبحت أكثر مرارةً وثقلاً، ومن حين لآخر كانت تندلع على شكل كراهية عميقة الجذور ضد الکيان الصهيوني.
وفي هذه السنوات الـ 75، لم يتوقف الکيان الصهيوني عن الاغتصاب والجرائم، ولم يخضع الفلسطينيون للذل والخضوع، ولذلك، بعد مرور هذا الوقت الطويل الذي لم يخل لحظةً من الأحداث والصراعات، من المستحيل أن تجد فلسطينياً نسي فلسطين ولا يعتبرها ملكاً للفلسطينيين، وقد أثبت سلوك الفلسطينيين المشرف خلال هذه الفترة الطويلة، أنه لا الاغتصاب ولا القسوة والجريمة ولا التهجير ولا مرور الزمن، يستطيع أن يسلب حقاً أو يزيف الشرعية والملكية.
2. المُثُل والأمل: إن دراسة الفترة المؤسفة ليوم النكبة، تظهر أن القادة الصهاينة وقادة الدول القوية الذين دعموا الأعمال الوحشية والقمعية للصهاينة المتعطشين للدماء في تلك الفترة المظلمة من التاريخ، كان لديهم انطباع بأنه باغتصاب الأرض وتهجير الفلسطينيين والتوافق مع الدول الأخرى المتحالفة معهم، سيكون كل شيء جيدًا، وستختفي فلسطين والفلسطينيون إلى الأبد من مسرح التاريخ وذاكرته، غير مدركين أن رحم فلسطين الطاهرة، أرض الله المقدسة، تحتضن أحداثاً وملاحم تزعج أحلام الشياطين وتحوّلها إلى كوابيس، وسرعان ما خرج الأطفال الذين نشؤوا في هذا الرحم الطاهر إلى الوجود، ليحرروا فلسطين ويصنعوا الملحمة.
السمة المميزة لهؤلاء الأبناء الغياری، كانت المُثُل والأمل، فكان المثل الأعلى لأبناء فلسطين هو حرية هذه الأرض، وكان أملهم هو التمسك بهذه الحرية بقوة، في ظل فضل الله ووعده الثابت بدعمهم ومساعدتهم، وكان السر الكبير في صمود فلسطين وثباتها، هو أنها لم تر المثل الأعلى والأمل محدوداً بجيل أو جيلين، ورأت فيه المثل الأعلى والأمل للأمة بأکملها في سياق الزمن، ولكل جيل دور وواجب لتحقيق ذلك، وبالتالي فإن فلسطين تتقدم بأميال على الكيان الصهيوني وداعميه في تحقيق هذا المثل الأعلى، ولهذا يولد الفلسطيني من أجل هذا المثل الأعلى والأمل في تحقيقه، ليُقتل أو يحتضن مثله المتحقق، وهكذا تظل قضية تحرير فلسطين حيةً وقائمةً مهما كان الثمن.
3. شم رائحة المؤامرة والخطر: في السنوات الأخيرة، ومع تهميش حركة اليسار في الکيان الصهيوني وصعود حركة اليمين على الساحة السياسية بقيادة نتنياهو منذ أكثر من عقد، ومن ثم عدم الاستقرار السياسي وتقصير عمر الحكومات، وأخيراً عودة نتنياهو إلى السلطة بانتصار ائتلاف الليكود وتشكيل حكومة اليمين الأكثر تطرفاً في فلسطين المحتلة، واستمرار وتكثيف التوجهات المتطرفة من خلال ممارسة المزيد من الضغوط على الفلسطينيين، وتسريع الاستيطان وتهويد القدس من خلال احتلال الأحياء الفلسطينية، والإصرار على تركيع الغرب والقوة المحركة للمقاومة، أي قطاع غزة، من خلال برامج معقدة وخطيرة من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى إلحاق أضرار جسيمة بتيار المقاومة؛ هذا التيار المتيقظ والواعي اشتم عمق المؤامرة والخطر، وتماشياً مع المواجهة التاريخية مع الکيان الصهيوني والتحرك نحو الهدف السامي المتمثل في حرية فلسطين، صمّم ونفّذ بذكاء تخطيطاً مفصلاً وشاملاً لعملية استباقية غير مسبوقة، وأنقذ وجود فلسطين من خطر كبير جداً كان يمکن أن يضر فلسطين بشکل أکبر بکثير من الأضرار المادية والمعنوية الحالية.
4. انطلاق عملية طوفان الأقصى يوم الـ7 من أكتوبر: من أجل البدء بعملية طوفان الأقصى، كان لا بد من تنسيق مفصل وشامل بين القوى الميدانية والدبلوماسية، وبعد هذا التنسيق الذي كان من أبرز سماته الإخفاء التام والمفاجئ عن جهاز المخابرات الصهيوني، بدأت العملية بـ 5 سمات: أ- التحديد الدقيق لأهداف العدو ومواقعه ب- إعداد القوات اللازمة والفعالة وتنظيم عدد الأشخاص والمعدات حسب العملية ج- الإقدام في الوقت المحدد د- استخدام مبدأ المفاجأة ه- الترقب والانتباه لنوع ومستوى رد فعل العدو.
5. الميدان هو الذي يرسم خطوط الدبلوماسية ويصبح أقوى داعم لها، بعد الانتهاء بنجاح من عملية طوفان الأقصى وبدء الرد الغاشم من الکيان الصهيوني، برز الجزء الأبرز من تاريخ الحروب الفلسطينية مع الکيان الصهيوني، ولأول مرة قدّم الميدان أرضية صنع القرار الصحيح للدبلوماسية، من خلال إدارة الحرب بشكل رسمي وتقديم الطرق الصحيحة بما يتوافق مع الحقيقة والمنفعة، ومنحها التشجيع والثقة والمصداقية والاقتدار والاستقلال والقوة.
وكانت هذه العلاقة الجديدة والمؤثرة للغاية على استمرار الحرب ومصيرها ذات أهمية كبيرة، لدرجة أن الکيان الصهيوني شعر بالتهديد من الحفاظ عليها واستمرارها، ولذلك، ومن أجل تعطيل هذه العلاقة وتدميرها، لجأ إلى أساليب مثل ادعاء الخلاف بين الميدان والدبلوماسية، وفي موازاة ذلك، قام بتشويه صورة الشخصيات الرئيسية والأبطال العظماء في فلسطين اليوم، مثل يحيى السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى وغيرهم، وبتعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا استخدم كل رأسماله الاستخباراتي والأمني للعثور على هؤلاء الأشخاص وقطع هذه العلاقة، وهو ما لم ينجح في فعله حتى الآن.
ومن خلال توفير معلومات مفصلة عن المشهد وتقليص المسافة مع الدبلوماسية، وعبر إقناع وتشجيع الدبلوماسية وإبقائها في مأمن من الأجواء الوهمية التي كان يخلقها الصهاينة وعملاؤهم للإخلال بحسابات الدبلوماسية، ساعد الميدان الدبلوماسية بشكل كامل في فهم الوضع بشكل صحيح واتخاذ القرار اللازم، والبعد عن التأثر بالعوامل الهدامة والخادعة والمنحرفة، لكي تؤتي دماء شهداء فلسطين المظلومين ثمارها في أسرع وقت ممكن بحنكة وذكاء الميدان والدبلوماسية.