الوقت- بينما لم تظهر الأوضاع في ساحة الحرب بين روسيا وأوكرانيا خلال الأشهر الأخيرة أي تطور خاص ولم يحدث أي تقدم بري خاص من الجانبين، إلا أن أحداث الأيام الماضية، غيرت الصفحة العسكرية وتحولت المعادلات السياسية فجأة إلى موسكو مرة أخرى، ويبدو أن الروس قد أمسكوا بعصب الحرب بالكامل مرة أخرى.
أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قوات البلاد تمكنت، السبت، من السيطرة على مدينة "افديفكا" المهمة في مقاطعة دونيتسك شرق أوكرانيا، كما هنأ فلاديمير بوتين، رئيس روسيا، جيش البلاد على هذا التطور الميداني الجديد ووصفه بأنه "انتصار مهم"، وفي وقت سابق، أمر قائد الجيش الأوكراني قواته بالانسحاب الفوري من مدينة افديفكا بسبب الخطر الوشيك المتمثل في محاصرة القوات الروسية للقوات الأوكرانية هناك.
ووصفت صحيفة نيويورك تايمز افديفكا بأنها كانت معقلا طويل الأمد للجيش الأوكراني ضد تقدم القوات الروسية، وذكرت أن الجنود الأوكرانيين هم الذين رووا قصص اليأس والإحباط بين رفاقهم في الخطوط الأمامية، كما زعمت الصحيفة أن سقوط افديفكا وسيطرة روسيا عليها كان أول انتصار كبير للقوات الروسية على أرض المعركة منذ مايو من العام الماضي.
أهمية افديفكا
ويعد الاستيلاء على أفديفكا، التي سقطت في أيدي الروس بعد عدة أشهر من القتال الدامي، حدث جرى أكبر تغيير في خط المواجهة بأكثر من 1000 كيلومتر، ويعد هذا الإنجاز العسكري أوضح علامة حتى الآن على كيفية تحول دفة الحرب لمصلحة موسكو منذ الهجوم المضاد الفاشل الذي شنته أوكرانيا العام الماضي.
ويمثل الاستيلاء على افديفكا ضربة إستراتيجية للجيش الأوكراني، لأن افديفكا كانت معقلًا دفاعيًا أوكرانيًا في منطقة دونيتسك، وكانت تحمي العديد من المواقع العسكرية الرئيسية وتضع مدينة دونيتسك، التي كانت قريبة من السيطرة الروسية، تحت تهديد مستمر.
إن السيطرة على افديفكا يمكن أن تخلق أيضًا فرصة لروسيا، ويمكن لقواتها بعد ذلك السيطرة على مدن إستراتيجية مثل بوكروفسك، وهي مركز لوجستي للجيش الأوكراني.
كما أن هذا النصر يجعل الروس أقرب إلى هدفهم الرئيسي المتمثل في الاستيلاء على منطقة دونيتسك بأكملها، وسيسمح الاستيلاء على هذه المدينة الإستراتيجية للجيش الروسي بالسيطرة الكاملة على مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك في المستقبل وإنشاء منطقة أمنية عازلة حول هذه المناطق وتعزيز سيطرتها عليها، كما أن صد القوات الأوكرانية عن محيط دونيتسك سيجعل الأوكرانيين غير قادرين على اختراق الحدود الروسية بسهولة، ومع تعزيز الدفاعات الروسية في هذه المنطقة، ستنخفض قدرة طائرات كييف دون طيار على المناورة في عمق الأراضي الروسية.
ويُنظر إلى افديفكا على أنها البوابة إلى مدينة دونيتسك، ويزعم المسؤولون الروس أن المناطق السكنية تعرضت للقصف من قبل القوات الأوكرانية، وأحيانًا من افديفكا، وقالت وزارة الدفاع الروسية إن افديفكا كانت مركزًا دفاعيًا قويًا للقوات المسلحة الأوكرانية وإن الاستيلاء عليها سيحرك خط المواجهة بعيدًا عن دونيتسك، ما يقلل من قدرة أوكرانيا على قصف الخنادق الروسية.
ومن ناحية أخرى، فإن الاستيلاء على مدينة افديفكا يمكن أن يعزز معنويات الجنود الروس ويضعف بدوره معنويات القوات الأوكرانية، التي لم تحقق سوى القليل من الإنجازات منذ يونيو/حزيران فيما تسمى عملية "الهجوم المضاد".
تشتهر مدينة افديفكا بمصنعها الكبير الذي ينتج وقودًا يعتمد على الفحم ويسمى فحم الكوك، كما أنها تمثل إنجازًا اقتصاديًا كبيرًا للروس، ويمكن أن تكون افديفكا، المحصنة بشكل كبير بشبكة من الأنفاق والتحصينات الخرسانية، بمثابة تعزيز لروسيا في الوقت المناسب ونقطة انطلاق محتملة لتحقيق انتصارات مستقبلية.
وتعد السيطرة على افديفكا أكبر تقدم إقليمي لروسيا منذ الاستيلاء على باخموت في مايو الماضي وقد تصبح نقطة فخر لبوتين بينما يسعى لولاية خامسة في منصبه، مع إجراء الانتخابات في 17 مارس، والآن، يصف بعض المسؤولين في الكرملين الاستيلاء على افديفكا بأنه أهم انتصار في الحرب.
ثغرات في جبهة الناتو
وتحقق تقدم الروس في أراضي أوكرانيا، بينما نُشرت في الأشهر الأخيرة العديد من الأخبار التي تظهر أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد خفضوا المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وقد أثار هذا الأمر قلق سلطات كييف.
وفي الحرب التي استمرت عامين، عادت أوكرانيا إلى الوضع الدفاعي ضد روسيا بسبب نقص الذخيرة ونقص الأفراد، كما حذر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حلفاء بلاده في مؤتمر ميونيخ الأمني يوم السبت من أن النقص المصطنع لأوكرانيا في الأسلحة يهدد بإعطاء روسيا مساحة للتنفس والسماح لبوتين بالتكيف مع حدة الحرب الحالية.
وفي مشاورة هاتفية مع زيلينسكي، ربط الرئيس الأمريكي جو بايدن انسحاب القوات الأوكرانية من مدينة افديفكا بعدم قدرة الكونغرس على الموافقة على حزمة مساعدات لكييف، وقد أكد بايدن لزيلينسكي أنه سيقنع الكونجرس بالموافقة على المزيد من التمويل لأوكرانيا قبل أن تتمكن روسيا من الاستيلاء على المزيد من الأراضي، ولكن من غير المرجح أن يوافق الجمهوريون على هذا الطلب، والذين لا أمل لديهم في انتصار أوكرانيا، ومع خسارة افديفكا، ثبت أن الأوكرانيين لا يملكون القوة اللازمة في مواجهة الروس، وأن إرسال المزيد من المساعدات لن يعالج الألم، ولذلك، فإنهم لا يريدون الرهان على حصان خاسر وحرق مليارات الدولارات مقابل لا شيء تقريبًا.
ويأتي انسحاب أوكرانيا من مدينة افديفكا الإستراتيجية بينما ظهرت علامات الضعف في حلف شمال الأطلسي العسكري في الأيام الأخيرة، دونالد ترامب، الرئيس السابق للولايات المتحدة، والذي من المحتمل أن يكون الخيار النهائي للجمهوريين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، هدد الأوروبيين مؤخرا في بيان له بأنه إذا عاد إلى البيت الأبيض، فسوف ينسحب من حلف شمال الأطلسي، وهذه القضية تثير المخاوف بشأن المستقبل الذي أنشأه هذا الحلف البالغ من العمر 77 عاما. وردا على تصريحات ترامب وإظهار أنهم قادرون على الدفاع عن أنفسهم دون أمريكا، قال القادة الأوروبيون إن الناتو ليس تحالفا عسكريا يعتمد على مزاج الرئيس الأمريكي.
وخلال فترة رئاسته، ضغط ترامب مراراً وتكراراً على الأوروبيين لتخصيص 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي لحلف شمال الأطلسي، وإلا فإن الولايات المتحدة ستخفض مساعدتها لهذه المنظمة، لذلك، يخشى الأوروبيون من عودة ترامب إلى السلطة، ويرون أن مستقبل الناتو في خطر، ولهذا السبب قامت بعض القوى الأوروبية مؤخرًا بتحركات في أوكرانيا، ما يدل على جهودها لتقليل الاعتماد على واشنطن.
وفي هذا الصدد، وقع رئيس أوكرانيا اتفاقيات أمنية ثنائية في برلين ثم في باريس لتلقي مساعدات طويلة الأجل من ألمانيا وفرنسا لبلاده، وتعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتقديم ما يصل إلى ثلاث مليارات يورو كمساعدات عسكرية إضافية لكييف هذا العام، كما قدمت ألمانيا التزامات مماثلة.
وبسبب حظر الكونغرس من إرسال المزيد من المساعدات إلى أوكرانيا (تصل إلى 60 مليار دولار)، تعتزم فرنسا وألمانيا أن تظهرا بهذه الاتفاقيات الأمنية أنهما لم تتخليا عن أوكرانيا، وفي غياب واشنطن، يمكنهما مساعدة حليفتهما في القتال ضد جيش روسيا القوي ومقاومته.
وقد ادعى بعض الزعماء الأوروبيين مراراً وتكراراً أن روسيا ستهاجم مناطق أخرى تابعة لحلف شمال الأطلسي بعد الاستيلاء الكامل على أوكرانيا، وتستعد دول مثل السويد لمواجهة محتملة مع موسكو.
القوة المحدودة لأوروبا في الدفاع عن أوكرانيا
ورغم أن العمليات العسكرية التي تقوم بها فرنسا وألمانيا دفاعاً عن أوكرانيا قد تكون قادرة على إنقاذ جيش البلاد لفترة قصيرة من الوضع الذي يجد نفسه فيه، إلا أنها لا تستطيع حل مشاكل كييف على المدى الطويل، لأن تجربة العامين الماضيين أظهرت أن الأوروبيين لن يتمكنوا من تحقيق النجاح حتى مع الدعم الأمريكي الواسع.
واعترف مسؤولون أمريكيون وأوروبيون بأن استمرار الحرب في أوكرانيا يتطلب ترسانة قوية من الأسلحة للقتال ضد روسيا لفترة طويلة، لكن الغربيين واجهوا مشكلة خطيرة في هذا الصدد، ورغم أن 20 دولة قدمت الدعم العسكري لأوكرانيا بشكل مباشر، إلا أنها بعد عامين أصبحت عاجزة عن توفير الأسلحة التي تحتاجها كييف، ووفقا لتقارير وسائل الإعلام الغربية، فقد استنفدت احتياطيات الذخيرة في أوروبا والولايات المتحدة، ولهذا السبب، وفي الأشهر الأخيرة، توقفوا عن إرسال المساعدات، وهم في ورطة.
وفقًا لوسائل الإعلام الغربية، أصبحت القوات المسلحة الألمانية الآن أقل تجهيزًا من نواحٍ عديدة عما كانت عليه قبل الصراع في أوكرانيا، حيث أرسلت برلين العديد من أفضل أسلحتها إلى كييف، وقالت الحكومة الألمانية إنها ستضاعف مشترياتها من الأسلحة ثلاث مرات بحلول عام 2024 لسد نواقصها.
ووفقا لبلومبرج، أعرب السياسيون الأوروبيون والمسؤولون التنفيذيون في صناعة الأسلحة عن قلقهم في الأشهر الأخيرة بشأن انخفاض مخزونات الأسلحة، قائلين إن شركات الأسلحة غارقة في الطلبيات، لكنها تفتقر إلى التفويضات الدفاعية والدعم الحكومي المضمون الذي تحتاجه قبل توسيع إنتاجها.
ووفقا للتقرير، يواجه القطاع العسكري الأوروبي أيضا مشاكل تتراوح بين نقص العمال المهرة ونقص قطع الغيار والإمدادات، والروتين، وإحجام البنوك عن إقراض شركات الأسلحة، وعلى الرغم من الحديث بين أعضاء الناتو عن ميزانيات عسكرية غير مسبوقة، يعتقد الخبراء أن الحلف من غير المرجح أن يزيد قدراته الإنتاجية في الأشهر والسنوات المقبلة.
لكن من ناحية أخرى، فإن روسيا في وضع جيد من حيث الأسلحة، وقد تمكنت من زيادة إنتاجها العسكري على الرغم من العقوبات الغربية واسعة النطاق، ومن خلال خسائر الحرب في أوكرانيا، حاول الغربيون إضعاف روسيا عسكرياً واقتصادياً، لكن هذه التصرفات كان لها نتيجة عكسية، لأن روسيا وجدت عملاء جدد لنفطها وغازها في آسيا بدلا من أوروبا، وتمكنت من تحييد آثار العقوبات إلى حد كبير ولم تظهر أي ضعف في مجال الدفاع.
وتناولت صحيفة الغارديان، في تقرير لها، السبت، استغراب الغرب من مرونة الاقتصاد الروسي، واعترفت بأن هذا البلد يستطيع مواصلة الحرب في أوكرانيا لعدة سنوات دون أي مشاكل في مجال الصناعة الدفاعية.
وحسب صحيفة الغارديان، فإن إنتاج ذخيرة المدفعية في روسيا ظهر مرات عديدة يفوق التقديرات، وهذا أعطى روسيا ميزة مهمة في مجال قوة روسيا في ساحة المعركة، ووفقا للرئيس الروسي، فإن الأسلحة الحديثة لهذا البلد أكثر فعالية من الأسلحة التي تستخدمها دول الناتو التي قدمت مساعدات عسكرية واسعة النطاق لأوكرانيا، وقال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الشهر الماضي إن إنتاج المعدات والمعدات العسكرية زاد بشكل كبير، كما زاد إنتاج قذائف المدفعية عدة مرات.
وكان انتصار روسيا في افديفكا، في الذكرى السنوية الثانية للحرب في أوكرانيا، بمثابة رسالة واضحة إلى حلف شمال الأطلسي مفادها بأن روسيا لا تقهر، وأن الجهود الرامية إلى التوقيع على الاتفاقيات الأمنية ومناشدة الكونجرس للموافقة على المزيد من الأموال لا يمكن أن تنقذ الغرب من مستنقع أوكرانيا.