الوقت - بعد عقدين من عدم النشاط في تطورات منطقة القوقاز، قررت إيران أن تلعب دورًا نشطًا في هذه المنطقة المتنازع عليها والاستراتيجية للغاية.
لذلك، وفي أعقاب التحولات الأخيرة في كاراباخ، أعيد تقييم وجهة نظر طهران بشأن المشهد السياسي الذي يحكم التغيرات الإقليمية، وتبنت إيران سياسة التعايش والتكامل مع جيرانها الشماليين أكثر من أي وقت مضى، ومن الأمثلة على ذلك، الرحلات العديدة التي قام بها المسؤولون الدبلوماسيون في إيران إلى دول هذه المنطقة.
وفي هذا الصدد، وصل وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى يريفان، عاصمة هذا البلد، الأربعاء الماضي، على رأس وفد من المسؤولين السياسيين والاقتصاديين للقاء السلطات الأرمينية، والتقى وتحدث مع نظيره الأرميني أرارات ميرزوفيان.
وحسب تقارير إعلامية، فإنه سيتم خلال اللقاء بين مسؤولي البلدين بحث سبل توسيع العلاقات بين البلدين، في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وكذلك التشاور بشأن القضايا المهمة للقوقاز في إطار آلية 3+3.
هذا بينما ناقش أمير عبد اللهيان قبل سفره إلى يريفان، التطورات في القوقاز والسلام بين أذربيجان وأرمينيا، وذلك باستخدام قدرات دول المنطقة، في اتصالات هاتفية منفصلة مع وزيري خارجية جمهورية أذربيجان وروسيا.
وتأتي زيارة أمير عبد اللهيان في ظل الظروف التي تعمقت فيها العلاقات بين إيران وأرمينيا في العامين الماضيين، ومع الاجتماعات المتكررة بين مسؤولي البلدين، فإن مستوى العلاقات يسير في اتجاه جيد.
ومن أجل تطوير العلاقات الدبلوماسية، زار أمير عبد اللهيان أرمينيا في أكتوبر من العام الماضي، وافتتح القنصلية الإيرانية في كابان بأرمينيا، ووصفت سلطات يريفان هذا الإجراء بأنه خطوة مهمة في اتجاه زيادة التعاون الثنائي، وأعربت عن تقديرها لمواقف الجمهورية الإسلامية في الدفاع عن سلامة أراضي أرمينيا.
تطوير العلاقات الاقتصادية مع يريفان
تماشياً مع استراتيجية "التوجّه شرقاً"، أعطت الحكومة الإيرانية الأولوية للتعاون مع جيرانها، كما شهدت العلاقات الاقتصادية المتزايدة مع أرمينيا اتجاهاً متزايداً في العامين الماضيين.
وحسب تقرير الجمارك الإيرانية، فقد قدر حجم التجارة بين إيران وأرمينيا العام الماضي بنحو 700 مليون دولار، ومن المتوقع أن يرتفع عدة مرات مع بناء السكك الحديدية.
وفي هذا الصدد، قال السكرتير الثاني للسفارة الأرمينية في إيران في أبريل: "في المجال الاقتصادي، شهدنا زيادةً بنسبة 40% في حجم التجارة بين إيران وأرمينيا، مقارنةً بالعام الماضي".
وقال نائب وزير الصناعة والتعدين والتجارة الإيراني ورئيس منظمة تنمية التجارة لورشة التجارة مع أرمينيا: "تحتل إيران الآن المرتبة الثالثة بين الدول المصدرة إلى أرمينيا بعد روسيا والصين، ويبلغ حجم صادراتنا إلى أرمينيا 437 مليون دولار، وحسب خطة التجارة بين البلدين، يجب أن تصل إلى 3 مليارات دولار".
وحسب المسؤولين الإيرانيين، فإن تبادل الغاز والكهرباء، ووجود شركات صناعة السيارات الإيرانية في أرمينيا، وإنتاج المنتجات الصناعية، وخاصةً الأجهزة المنزلية الإيرانية، على شكل إنتاج مشترك، وإقامة المعارض المختلفة، وبناء المصفاة، أحد البرامج المشتركة التي وضعتها الجارتان على جدول الأعمال.
وحسب وكالة أنباء "نيوز أرمينيا"، أكد "ماناتساكان سفاريان"، نائب وزير خارجية أرمينيا، على العلاقات الدافئة بين أرمينيا وإيران، في اجتماع حول "الحقائق الجديدة للمنطقة والسلام" في يريفان يوم الثلاثاء الماضي.
وکما جاء علی لسان سفاريان، فإن أرمينيا تستورد 365 مليون متر مكعب من الغاز من إيران سنوياً، وفي أغسطس 2023، وقعت أرمينيا وإيران وثيقةً لتمديد عقد الغاز الطبيعي والكهرباء حتى عام 2030.
وبموجب هذه الاتفاقية المعدلة، ستقوم إيران بزيادة صادرات الغاز الطبيعي إلى أرمينيا، وستزيد أرمينيا أيضًا من تصدير الكهرباء إلى إيران، وتابع المسؤول الأرمني: "إننا نتخذ خطوات نشطة لزيادة تعاوننا، بما في ذلك على مستوى التعاون متعدد الأطراف، ومن هذا المنطلق، فإن نقل البضائع ومشاريع البنية التحتية وتطوير الطاقة والبرامج الإقليمية، لها أهمية كبيرة".
وتجدر الإشارة إلى أنه بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين إيران والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، فإن مستوى العلاقات مع أعضاء هذا الاتحاد، الذي تعدّ أرمينيا جزءاً منه، سوف يتحسن، وسيتم تعويض عدم نشاط إيران في العقود الثلاثة الماضية لدخول السوق الأرمنية إلى حد كبير.
أهمية ممرات السكك الحديدية
بما أنه في السنوات الأخيرة، أصبح دور ممرات السكك الحديدية في تنمية التجارة العالمية، محط اهتمام الدول أكثر من أي وقت مضى، أعطت الجمهورية الإسلامية الأولوية لتطوير البنية التحتية للسكك الحديدية، وأصبحت هذه القدرات جذابةً للغاية لجيرانها في القوقاز.
وفي هذا الصدد، أشار نائب وزير خارجية أرمينيا إلى دور ممرات السكك الحديدية بين البلدين، وقال: "إيران هي الشريك التجاري الرابع لأرمينيا، وإيران هي طريق العبور لأرمينيا إلى الشرق الأوسط".
بالإضافة إلى تطوير التجارة الأوراسية مع دول الخليج الفارسي والمحيط الهندي من خلال إنشاء ممر "الشمال-الجنوب"، تحاول الحكومة الإيرانية تعزيز جسر التواصل بين الشرق والغرب عبر أرمينيا.
وتحظى أرمينيا بأهمية كبيرة بالنسبة لإيران بسبب موقعها على طريق البحر الأحمر وأوروبا، وفي الأشهر الأخيرة، تم إبرام اتفاقيات بين طهران ونيودلهي ويريفان لبناء ممر المحيط الهندي إلى البحر الأحمر، وعلى الرغم من أن هذا المشروع لا يزال على الورق، إلا أنه إذا تم تنفيذ هذا المسار للسكك الحديدية، فإنه سيؤدي إلى ازدهار الأعمال التجارية في المنطقة.
ومن ناحية أخرى، تحاول إيران تحويل نفسها إلى مركز تجاري في المنطقة، من خلال ربط خطوط السكك الحديدية بين أذربيجان وأرمينيا، بالإضافة إلى ربط العلاقات التجارية بين البلدين.
ولذلك، في الأشهر الأخيرة، يتم متابعة بناء طرق العبور بين إيران وأذربيجان بشكل جدي. وفي هذا الصدد، أمر الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف الشهر الماضي بتخصيص الموارد المالية اللازمة، لبناء طريق عبور لربط أذربيجان بنخجوان من إيران، وأيضاً بناء جسر فوق نهر أراس لربط البلدين.
وفي منتصف نوفمبر/تشرين الثاني أيضاً، وفي اجتماع رؤساء اللجان الاقتصادية المشتركة لإيران وأذربيجان، تم التوقيع على محضر الاجتماع التنفيذي لبدء بناء جسر "أغبند" لتحديد تفاصيل التنفيذ، ومحضر الاجتماع التنفيذي لمعبر السكك الحديدية عبر إيران في بناء ممر السكك الحديدية في أراس.
وفي اتصال هاتفي بين أمير عبد اللهيان ووزير الخارجية الأذربيجاني جيهون بيراموف، رحّب الجانبان بافتتاح المرحلة الأولى من جسر "أستراشاي" الحدودي في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر، لما له من أهمية في تطوير العلاقات التجارية بين إيران وأذربيجان.
وبما أن إيران وروسيا تخططان لاستكمال ممر الشمال-الجنوب، فإن جزءاً من هذا الممر والذي يسمى "رشت-أستارا"، يمر عبر أراضي أذربيجان على مسافة 162 كيلومتراً، وسوف تساعد هذه السكة الحديدية على تطوير العلاقات التجارية وخفض تكاليف النقل في القوقاز.
ومع تطور التبادلات التجارية والاقتصادية عبر ممر الشمال-الجنوب الاستراتيجي، ستزداد بطبيعة الحال رغبة مختلف البلدان في المشاركة في هذا المشروع المربح، ودور أرمينيا في تحقيق هذه القضية لا يقلّ عن دور جمهورية أذربيجان.
حيث يمكن أن تلعب يريفان دورًا مهمًا في ممر الشمال-الجنوب من خلال مشروع يسمى سكة حديد جنوب أرمينيا، الذي يربط مدينة كافار بمغري بالقرب من الحدود الإيرانية، وفي الوقت نفسه يصبح من الممکن الوصول إلى البحر الأسود من موانئ جنوب إيران.
سيكون تخفيف التوتر بين موسكو ويريفان بعد اتفاق السلام الثنائي بين أرمينيا وجمهورية أذربيجان، خطوةً مهمةً في تعزيز مشاركة هذا البلد في ممر الشمال-الجنوب.
وفي هذا الصدد، وبالتزامن مع زيارة أمير عبد اللهيان إلى يريفان، التقى رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الثلاثاء الماضي، خلال زيارته إلى سان بطرسبرغ، والتي يمكن الإشارة إليها بإذابة الجليد بين الجانبين.
وتكتسب هذه الرحلة أهميةً خاصةً، لأن العلاقات السياسية بين موسكو ويريفان توترت في الأشهر الأخيرة بسبب حرب كاراباخ، وكان زعماء أرمينيا، منتقدين مواقف روسيا، قد وضعوا تعزيز العلاقات مع الدول الغربية على جدول الأعمال، وهو ما وصفه الخبراء ببعد أرمينيا عن جبهة موسكو، لكن زيارة باشينيان أظهرت أن أرمينيا لم تدر ظهرها لروسيا، وما زالت تتخذ خطوات نحو التعاون مع هذا البلد.
دور إيران في استقرار القوقاز
بالإضافة إلى القضايا الاقتصادية، لعبت إيران أيضًا دورًا بناءً في التطورات الأمنية في منطقة القوقاز خلال العامين الماضيين.
ففي خضم تصاعد التوترات بين أرمينيا وأذربيجان في ناغورنو كاراباخ، منعت الجمهورية الإسلامية، باستخدام سياسة متوازنة، من إشعال نار الحرب مرةً أخرى في المنطقة.
وحذّر المسؤولون الإيرانيون مسؤولي باكو مراراً وتكراراً من أنهم لن يسمحوا بتغييرات جيوسياسية في القوقاز، ودفعت هذه المواقف الحاسمة أذربيجان إلى التراجع عن خططها الطموحة، بما في ذلك بناء ممر "زانجيزور" في المنطقة.
وبما أن أمن القوقاز ليس منفصلاً عن الأمن داخل إيران، فقد استخدمت الحكومة الإيرانية الدبلوماسية الديناميكية لإحلال السلام والأمن في هذه المنطقة.
في غضون ذلك، عقدت وزارة الخارجية الإيرانية اجتماعاً بصيغة 3+3 في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، بحيث تتمكن، بالتعاون مع الدول المجاورة، من استعادة الاستقرار والأمن الكاملين إلى منطقة القوقاز من خلال إنشاء آليات فعالة، وتستمر هذه الاجتماعات بين سلطات 6 دول (روسيا وإيران وتركيا وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا).
وقد كان لهذا التعاون الإقليمي الذي تركز على إيران تأثير جيد نسبياً، وفي الأسابيع الأخيرة كانت هناك انفراجات فيما يتعلق باتفاقية السلام بين يريفان وباكو.
ومع تراجع الصراعات في كاراباخ، استخدمت إيران الأداة الدبلوماسية "أولوية السلام والتعاون والتنمية في القوقاز"، لتجنب الترويج للحرب من قبل قوى من خارج المنطقة، من خلال المزيد من التقارب مع أرمينيا وأذربيجان.