الوقت- نشر اسفنديار خدايي، الباحث في الدراسات الأمريكية من جامعة طهران، مقالاً بعنوان "أمريكا هي السبب الرئيسي للحرب الإسرائيلية الفلسطينية الأخيرة: كيف انتهت 30 عاماً من السياسة الأمريكية بكارثة"، وهو مأخوذ من مذكرة أستاذ جامعة هارفارد ستيفن والت في السياسة الخارجية.
بينما ينعي الإسرائيليون والفلسطينيون موتاهم وينتظرون بفارغ الصبر الأخبار عن المختفين، فإن الرغبة في العثور على الجاني مستحيلة بالنسبة للكثيرين، ويريد الإسرائيليون ومؤيدوهم إلقاء اللوم كله على حماس، التي كانت مسؤولة بشكل مباشر عن الهجوم على "إسرائيل"، أما أولئك الأكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية فينظرون إلى هذه المأساة باعتبارها نتيجة حتمية لعقود من الاحتلال والمعاملة القاسية التي تمارسها "إسرائيل" منذ فترة طويلة ضد المواطنين الفلسطينيين، ويصر آخرون على أن من يعتبر طرفا بريئا تماما هو وحده المسؤول.
إن الجدال حول من يتحمل المسؤولية يحجب حتماً أسباباً مهمة أخرى للصراع الطويل بين الإسرائيليين الصهاينة والعرب الفلسطينيين، ولا ينبغي لنا أن نتجاهل عوامل أخرى، حتى أثناء الأزمة الحالية، لأن تأثير تلك العوامل قد يستمر لفترة طويلة بعد انتهاء الحرب الحالية بين "إسرائيل" وحماس.
ولفت الكاتب إلى أن عام 1991 بدأ عندما برزت الولايات المتحدة كقوة أجنبية من دون منافس جدي في شؤون الشرق الأوسط، وبدأت تحاول خلق نظام إقليمي يخدم مصالحها، وضمن هذا السياق الأوسع، هناك ما لا يقل عن خمس حلقات أو أحداث رئيسية تساعدنا على فهم الأحداث المأساوية التي وقعت في الأسبوعين الماضيين.
كانت الحلقة الأولى هي لحظة حرب الخليج عام 1991 وما تلاها من نتائج مثل مؤتمر مدريد للسلام، لقد كانت حرب الخليج بمثابة عرض مذهل للقوة العسكرية الأمريكية والفن الدبلوماسي الذي قضى على التهديد الذي كان يشكله صدام حسين على توازن القوى الإقليمي.
ومع اقتراب انهيار الاتحاد السوفييتي، كانت الولايات المتحدة في مقعد السائق في ذلك الوقت، واستغل جورج بوش الأب، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، وجيمس بيكر، وزير خارجية ذلك البلد، وفريق أمريكي من ذوي الخبرة في الشرق الأوسط، الفرصة وعقدوا مؤتمر سلام في أكتوبر 1991، ضم ممثلون عن "إسرائيل" وسوريا ولبنان ومصر والجماعة الاقتصادية الأوروبية والوفد المشترك من الأردن وفلسطين، ورغم أن هذا المؤتمر لم يسفر عن نتائج ملموسة، ناهيك عن التوصل إلى اتفاق سلام نهائي، فإنه وضع الأساس لجهود جادة لإقامة نظام إقليمي سلمي.
ولو أعيد انتخاب بوش الأب في عام 1992 وأتيحت لفريقه الفرصة لمواصلة عملهم، فإن ما كان يمكن أن يحققه كان يبدو مغرياً، لكن مؤتمر مدريد كان فيه خلل قاتل، وهو الخلل الذي زرع بذور مشاكل المستقبل، وكان عيب المؤتمر هو عدم دعوة إيران للمشاركة فيه، كما تم تجاهل جماعات مثل حماس والجهاد الإسلامي.
وكما تشير تريتا بارسي في كتابها "التحالف الغادر": "إن إيران رأت نفسها كقوة إقليمية كبرى وتوقعت أن تحصل على مقعد على طاولة المفاوضات، لأن مؤتمر مدريد كان مجرد اجتماع حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني"، لا يمكن أن يكون الأمر كذلك، لكنها كانت لحظة حاسمة في تشكيل النظام الجديد للشرق الأوسط. وكان رد طهران على عدم الدعوة استراتيجياً في المقام الأول، وليس أيديولوجياً، لقد سعت إيران إلى أن تثبت لأمريكا والجهات الفاعلة الأخرى أنه إذا لم تؤخذ مصالح البلاد في الاعتبار، فإن ذلك قد يؤدي إلى عرقلة جهودهم الرامية إلى إنشاء نظام إقليمي جديد.
أما الحدث المهم الثاني فكان ذلك المزيج المشؤوم من الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 والغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.
اعتقدت إدارة بوش الابن أن الإطاحة بصدام حسين من شأنها أن تقضي على التهديد المتصور الذي تشكله أسلحة الدمار الشامل في العراق، وتذكر الخصوم بقوة الولايات المتحدة، وتضرب الإرهاب على نطاق أوسع، وتمهد الطريق لتحول جذري في الشرق الأوسط بأكمله على طول خطوط ديمقراطية، لكن ما نتج عن ذلك للأسف كان مستنقعاً مكلفاً في العراق وتحسناً هائلاً في موقع إيران الاستراتيجي، هذا التغيير في ميزان القوى في الخليج الفارسي أثار قلق المملكة العربية السعودية ودول الخليج الفارسي الأخرى، كما أدى تصور التهديد المشترك من إيران إلى تغيير العلاقات الإقليمية بطرق مهمة، بما في ذلك من خلال التغيير في علاقات بعض الدول العربية مع "إسرائيل".
وكان الحدث الثالث، حسب تحليل فورين بوليسي، هو القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران وتبني سياسة “أقصى قدر من الضغط”، في الوقت الذي قرر فيه ترامب نقل سفارة واشنطن إلى القدس والاعتراف بضم الجولان السوري وسعيه لفرض “صفقة القرن”، التي تنهي عملياً أي أمل فلسطيني في إقامة دولة مستقلة، وكان لهذه القرارات عواقب مؤسفة، لأنها سمحت لإيران باستئناف برنامجها النووي وتسببت في هجمات على شحنات النفط ومنشآته بالمنطقة، وفاقمت هذه التطورات المخاوف بين دول الخليج، ودفعتها إلى التفكير في تأسيس برنامج نووي خاص بها، وشجعت أيضاً التعاون الأمني بين كيان "إسرائيل" والعديد من دول الخليج على أساس التهديد المتصور من إيران.
أما الحدث الرابع فقد كانت اتفاقيات أبراهام، التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين كيان "إسرائيل والعديد من الدول العربية، الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، وفي حين هلل البعض لتلك الاتفاقيات على أنها خطوة إيجابية، إلا أن المنتقدين رأوا أن من الحتمي بذل مزيد من الجهود لإعطاء الفلسطينيين حقوقهم والتركيز على الصراع الذي لم يُحلّ، ثم جاءت إدارة بايدن واستمرت في المسار نفسه تقريباً، ولم تتخذ أي خطوات مهمة لمنع حكومة كيان "إسرائيل" اليمينية المتطرفة من دعم أعمال العنف التي ينفذها المستوطنون المتطرفون، والتي أدت إلى ارتفاع عدد الشهداء والنزوح بين الفلسطينيين على مدى العامين الماضيين.
وبعد فشل بايدن في الإيفاء بوعد حملته الانتخابية بالعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة في الحال، ركز هو ورفاقه على إقناع السعودية بتطبيع العلاقات مع "إسرائيل" مقابل نوع من الضمانات الأمنية الأمريكية وربما امتلاك تكنولوجيا نووية متقدمة.
إن الدافع وراء هذا المسعى لم يكن له علاقة تذكر بكيان "إسرائيل" وفلسطين، بل كان الهدف منه منع السعودية من الاقتراب من الصين، وكان ربط الالتزام الأمني تجاه السعودية بالتطبيع وسيلة للتغلب على إحجام الكونغرس الأمريكي عن التوصل إلى صفقة مرضية مع الرياض.
ومِثل رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو وحكومته، افترض كبار المسؤولين الأمريكيين أنه ليس بمقدور أي مجموعة فلسطينية أن تفعل شيئاً لعرقلة هذه العملية أو إبطائها أو لفت الانتباه مرة أخرى إلى القضية الفلسطينية.
أما الحدث الخامس فيتعلق بالمقاومة الفلسطينية نفسها، إذ تجمعت كل هذه العوامل لتعطيها حافزاً قوياً لإثبات مدى خطأ هذا الافتراض، فقد كان فشل عملية السلام في تقديم أي حق من حقوق الفلسطينيين هو العامل الخامس الذي ساهم في الوضع الحالي. فرغم الجهود العديدة التي بدا أن الإدارات الأمريكية السابقة تبذلها، كان تحقيق حل الدولتين لا يزال بعيد المنال، وازداد الوضع تدهوراً على الأرض، وهذه العناصر الأساسية مهمة، لأن النظام العالمي المستقبلي تتنافس عليه دول مؤثرة مثل الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا والبرازيل وإيران، وتدعو هذه الدول إلى نظام متعدد الأقطاب تتوزع فيه القوة بشكل أكثر توازناً، ويكون بديلاً للنظام الحالي الذي تتزعمه الولايات المتحدة.
وانتقدت هذه الدول الولايات المتحدة؛ لفشلها في حل الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط، متعللة بالحروب المستمرة وانعدام الاستقرار والأمن والعدالة في المنطقة، وترى تلك القوى الدولية أن الحد من نفوذ الولايات المتحدة وتكثيف نشاطها هما ما سيفيد العالم.
ويتجاوز صدى هذه الرسالة نطاق المجتمع عبر الأطلسي ويشكل تحدياً لمكانة الولايات المتحدة في العالم، وبينما تعمل إدارة بايدن على إدارة الأزمة التي ورثتها، يبدو جلياً أنها ماهرة فقط في معالجة المشكلات قصيرة المدى لكنها تفتقر إلى رؤية شاملة لدور أمريكا العالمي، حيث تركز واشنطن الآن على تقديم الدعم الأعمى لكيان "إسرائيل" بغض النظر عما ترتكبه من جرائم بحق الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس أيضاً.
والجهود التي تبذلها الإدارة لمعالجة الموقف الحالي قد لا تعالج المشكلات الأساسية، ولو كانت المحصلة مجرد العودة إلى الوضع الراهن قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، فقد يدرك بقية العالم أن الوقت قد حان لتبني نهج مختلف.