الوقت- خلق الوضع السياسي والاقتصادي المعقد في لبنان وضعاً خاصاً لهذا البلد. وبعد انتهاء فترة رئاسة ميشال عون في تشرين الثاني من العام الماضي ظل منصب رئيس لبنان شاغرا منذ أكثر من خمسة أشهر ويعاني البلد من فراغ في السلطة. وتدار شؤون لبنان من قبل حكومة نجيب ميقاتي المؤقتة، وفي الأشهر الأخيرة، لم يتوصل أعضاء مجلس النواب إلى اتفاق لانتخاب رئيس جديد.
اقتصاديا، لبنان على بعد خطوات قليلة من الانهيار التام. وأصبحت الأزمة الاقتصادية في هذا البلد أسوأ من ذي قبل بعد وباء فيروس كورونا في 2018 وانفجار ميناء بيروت في 2019. ويعتبر انعدام الأمن الغذائي حاليًا من المخاطر الجسيمة في لبنان، حيث يعيش أكثر من 80٪ من السكان تحت خط الفقر ويواجهون صعوبات في تلبية احتياجاتهم الأساسية. ولقد سجل معدل البطالة اتجاها تصاعديا في الآونة الأخيرة رقم 50.15٪ ، وقيمة العملة اللبنانية تتراجع بسرعة، وكل دولار يساوي 113 ألف ليرة، وفي مثل هذه الحالة يقدم صندوق النقد الدولي مساعدات مالية للبنان خاضعة بإجراء إصلاحات سياسية في هذا البلد، ولكن بيروت تنهار بفقدان آمالها في تلقي المساعدة من المؤسسات الدولية.
وحسب الوضع الراهن، فإن اللاعبين الأجانب الرئيسيين في لبنان، وخاصة السعودية وفرنسا، قد قللوا من وجودهم في هذا البلد لأن النفوذ في لبنان في المرحلة الحالية ينطوي على تكلفة باهظة للغاية. ومع سحب رؤوس الأموال من الدول الأجنبية من لبنان، تسبح قطر عكس التيار وتحاول الدخول في قضايا لبنان بشكل شامل.
قطر ولبنان
منذ مشاركة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بقمة بيروت الاقتصادية، في يناير من عام 2019، كان الموقف القطري واضحاً في الوقوف إلى جانب لبنان. وفي فبراير من العام الجاري، عقد في العاصمة الفرنسية باريس، اجتماع ضم قطر والسعودية إلى جانب فرنسا وأمريكا؛ للبحث في حل الأزمة السياسية والوصول إلى اتفاق حول انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة منسجمة معه، ووضع خطة اقتصادية وإصلاحية واضحة.
كما تسارعت الخطوات التي حاولت من خلالها قطر مؤخراً تعزيز حضورها في لبنان، من خلال القيام بأنشطة استثمارية متنوعة، فقد قررت السير بالاتجاه المعاكس تماماً لمعظم الدول التي غادرت باستثماراتها، عبر الدخول، في أواخر شهر يناير الماضي، من خلال شركة "قطر للطاقة" كشريك بنسبة 30%، في كونسورتيوم التنقيب عن الغاز واستخراجه، في البلوكين 4 و9 اللبنانيين ولم تقتصر الاستثمارات القطرية الوافدة إلى السوق اللبنانية على قطاع الطاقة، بل شملت أيضاً قطاعي العقارات والفنادق، رغم محدودية الأرباح التي يحققها القطاع العقاري في لبنان اليوم، كما بدأت قطر خلال الفترة الماضية بجمع معلومات عن الوضعية المالية لعدد من المصارف اللبنانيّة المتعثرة، تمهيداً للدخول على خط شراء حصص فيها.
وقدمت رزماً من المساعدات لمؤسسات الدولة اللبنانية، من بينها منح الجيش اللبناني رزماً متتالية من المساعدات النقدية بالدولار الأمريكي، لتمكين قيادة الجيش من توزيع جزء من الرواتب للعسكريين بالعملة الصعبة، بعد أن انهارت قيمة رواتبهم المقومة بالليرة اللبنانية. كما تقدمت قطر على سائر الدول العربية والأجنبية الأخرى في حجم المساعدات التي قدمتها لمؤسسات الدولة الأخرى، في قطاعات التعليم والصحّة والإعلام والبيئة
تاريخ نفوذ الدوحة في لبنان
في عام 2006، بعد الحرب التي استمرت 34 يومًا بين إسرائيل وحزب الله، أرسلت قطر مساعدات مالية لإعادة بناء عدة بلدات وقرى في جنوب لبنان. وبعد ذلك بعامين، استضافت الدوحة اجتماعاً للقادة السياسيين اللبنانيين، تم خلاله إبرام اتفاق الدوحة وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للبنان، منهياً الأزمة السياسية التي استمرت 18 شهراً في لبنان.
وفي عام 2017، مولت مؤسسة قطر الخيرية تجديد مكتبة لبنان الوطنية، وفي العام نفسه، أعلنت الدوحة أنها ستشتري سندات حكومية لبنانية بقيمة 500 مليون دولار لمساعدة اقتصاد البلاد. كما شارك الشيخ تميم أمير قطر في الاجتماع الاقتصادي لبيروت عام 2018. وبعد مرور عام، أظهرت أنباء شراء فندق بيروت لو فاندوم الشهير في لبنان من قبل قطر تصميم الدوحة على زيادة نفوذ قطر في لبنان.
ومنذ عام 2020، أصبحت المساعدة القطرية للبنان أكثر وضوحا. حيث أعلنت حكومة قطر أنها ستمنح 60 مليون دولار لدفع رواتب أفراد الجيش اللبناني، وسترسل 70 طنا من المواد الغذائية إلى الجيش كل شهر. كما قدم أمير قطر مساعدات مالية لحكومة رئيس وزراء لبنان حسان دياب في ذلك الوقت. وفي فبراير من العام الماضي، شاركت قطر والسعودية وفرنسا والولايات المتحدة في اجتماع في باريس بهدف تقديم خطة للإصلاح الاقتصادي واتفاق على انتخاب الرئيس المقبل للبنان. وفي أبريل من هذا العام، مع زيارة محمد بن عبد العزيز، وزير الخارجية القطري، إلى لبنان ولقائه مع المسؤولين اللبنانيين، تم تعزيز الاهتمام بوجود قطر في لبنان.
مصالح قطر في لبنان
بعد أن زار العماد جوزاف عون، قائد الجيش اللبناني، قطر والتقى بمسؤولي الدولة العام الماضي، صرح بعض المحللين أن الغرض من وجود قطر في لبنان هو دعمه ليصبح رئيسًا للبنان، وآخرون خاصة النظام الصهيوني، يفسرون وجود قطر في لبنان على أنه دعم لحزب الله، تمامًا كما دعمت قطر الجماعات الإسلامية في المنطقة في السنوات الأخيرة. وفي المقابل، يعتقد البعض أن دعم قطر للجيش اللبناني يعني موازنة حزب الله.
لكن الحقيقة أن قطر تسعى إلى تحقيق أهداف اقتصادية من خلال لعب دور الوسيط في لبنان ودعم هذا البلد. لقد تُرِك لبنان ليدافع عن نفسه في الأشهر الأخيرة، والدول التي كانت ذات يوم فاعلة ومؤثرة في لبنان قد سحبت الآن وجودها السياسي ورؤوس أموالها من بيروت، ونتيجة لذلك تعتبر قطر لبنان مجالًا لا مثيل له لاستثماراتها. وتعد قضية الطاقة من أهم مجالات اهتمام قطر وأحد الأسباب الرئيسية لوجود الدولة في لبنان. ولقد استحوذت قطر مؤخرًا على 30٪ من الأسهم في حقول الغاز والنفط في لبنان لتكون ثالث أكبر مستثمر في التنقيب البحري في لبنان، إلى جانب إيطاليا وفرنسا.
وبعد انسحاب شركة نوفاتيك الروسية من تحالف البحر الأبيض المتوسط للتنقيب عن الغاز، اشترت قطر 20٪ من أسهم الشركة، وكذلك 5٪ من إيني الإيطالية و 5٪ من توتال الفرنسية، ما يضمن وجودها في قطاع الطاقة اللبناني. وبعد استبعاد روسيا جزئيًا من صادرات الغاز خلال الأزمة الأوكرانية، تحتاج قطر إلى مصادر غاز جديدة لسد هذه الفجوة والحفاظ على عملائها الآسيويين مع جذب عملاء أوروبيين جدد، ولبنان من أفضل الفرص للوصول إلى الموارد. في الواقع، ما جعل قطر مستعدة للمشاركة ليس استعراضاً للقوة السياسية، بل تحقيقاً للمزيد من الإيرادات من الطاقة.
في الوقت الحالي، لا يمكن اعتبار قطر جهة فاعلة رئيسية في التطورات الداخلية في لبنان، وبسبب النهج المعتدل وغياب الدعم المستهدف للأحزاب، يبدو أن قادة قطر لا يتطلعون للعب دور سياسي. وتقيم قطر علاقات ودية مع جميع الأحزاب اللبنانية السنية والشيعية والمسيحية ولم تدعم أيًا منها ضد الآخر، وقدمت نفسها كوسيط وشددت دائمًا على الحل السياسي لتجاوز الأزمة في بياناتها. ويُظهر هذا النهج، إلى جانب المساعدة المالية المكثفة لاقتصاد بيروت والنفوذ القطري المتزايد في مجال التنقيب عن الغاز واستخراجه على الساحل اللبناني، أن الأولوية الأولى لدور الدوحة في لبنان هي الفوائد الاقتصادية البحتة.