الوقت- في الوقت نفسه الذي تسعى فيه روسيا للتقريب بين تركيا وسوريا وجهود الدول العربية للعودة إلى دمشق، بدأت الولايات المتحدة تحركاتها لتعطيل هذه العملية السياسية. وفي هذا الصدد، سافر نيكولاس غرينغر، ممثل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السورية، إلى شمال سوريا بمقترحات جديدة في الأيام الأخيرة. وحسب بعض المصادر، فقد أجرى غرينغر محادثة مع ممثلين عن "الإدارة الذاتية" و "المجلس الوطني الكردي"، كما أنه سيلتقي مع وجهاء وشيوخ العشائر.
قال فؤاد عليكو، زعيم "المجلس الوطني الكردي" في سوريا، عن النسخة الجديدة لواشنطن إن الولايات المتحدة اقترحت "مشروعًا متكاملًا" للمناطق الشمالية الشرقية من سوريا. وقالت مصادر إن الأمريكيين لم يبدوا أي تعليقات جادة حتى الآن، لكنهم يستمعون بعناية لخطط الجميع ويدلون بتعليقات عامة. وحسب مسؤولين أكراد، فإن الأفكار الأمريكية تشمل مشاركة جميع الأطراف في إدارة واستقرار المنطقة وإقامة علاقات غير عدائية بين الأكراد وتركيا. وقال عليكو إن المسودة الكاملة للخطة الأمريكية ستقدم من قبل ممثل الولايات المتحدة بعد الاستماع لجميع الأطراف وبعد اتفاق الأمريكيين والأتراك على صيغة محددة. من جهة أخرى، أعلنت بعض المصادر الإخبارية أن واشنطن تتطلع إلى تشكيل ميليشيات مسلحة تحت مسمى "مجلس الجزيرة العسكري" في شمال سوريا، تكون مهمتها الانتشار في مناطق قريبة من الحدود التركية.
وتأتي الإجراءات الأمريكية الجديدة بعد توجه عدد من القادة الأكراد مؤخراً إلى دمشق، حيث ناقش الطرفان، حسب مصادر مطلعة، آخر التطورات في المناطق الكردية، ووجود القوات التركية، وضرورة الحفاظ على وحدة سوريا، وقضايا ثنائية أخرى.
منع تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا
تأتي الإجراءات الأمريكية في وقت أعلنت تركيا استعدادها لتطبيع العلاقات مع الحكومة السورية في الأشهر الأخيرة، وعقدت عدة اجتماعات بين مسؤولي الأمن والاستخبارات في البلدين من أجل استئناف العلاقات الثنائية بعد أحد عشر عامًا من التوتر. وقد أعرب البيت الأبيض عن قلقه من عملية التطبيع التي تقوم بها أنقرة مع دمشق، ويعتبر هذا الإجراء مخالفًا لخططها في المنطقة، لذا فهو يحاول إعادة خططه الفاشلة إلى الواجهة مرة أخرى ووقف هذا التطبيع.
قرب أنقرة من دمشق يعني إطلاق التنازل عن إرهابيي إدلب وإنهاء مشروع الإرهاب في هذا البلد. كما أن عودة الدول المعادية إلى سوريا ستعزز صورة وقوة الرئيس السوري بشار الأسد على الساحة الدولية، وسيكون من الصعب على واشنطن التي استخدمت كل أدواتها للإطاحة بحكومته استيعابها.
من أجل تقليل مخاوف تركيا من الأكراد، تخطط أمريكا لإنشاء منطقة عازلة بين تركيا والأكراد من أجل منع النزاعات بين الجانبين في المستقبل والتمكن من وجود حليفين إلى جانبها، وبالتالي منع تركيا من التقرب من الحكومة السورية.
بالنظر إلى أن السلطات التركية أيضًا ضد الوجود الأمريكي في شمال سوريا، ففي حالة العلاقات الودية بين البلدين الجارين، هناك احتمال أن تتخذ سلطات أنقرة موقفًا قويًا ضد الوجود الأمريكي وبطريقة ما ستكون هذه الدولة وحدها في الساحة السورية. وتضييق الساحة أمام القوات الأمريكية سيجبر البيت الأبيض على مراجعة سياساته، لذلك فهو يحاول إبقاء تركيا في مقدمة المواجهة والعداء مع الحكومة السورية، لأنه مع استئناف العلاقات الدبلوماسية وانسحاب القوات التركية، فإن قوات الجيش السوري ستدخل مناطق الشمال والأمريكيون سيحتلون مكانا لهم ليكون معقلهم، وكانت السلطات السورية اعتبرت وجود أمريكا احتلالًا وطالبت مرارًا باحترام وحدة أراضيها وسحب قواتها.
أمريكا تسعى إلى هدف آخر لمنع تطبيع تركيا وسوريا. حيث تسعى واشنطن، التي كانت في حالة توتر مع حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السنوات الأخيرة، إلى إبعاد هذا الحليف غير السار عن مسارها. بما أن الانتخابات الرئاسية التركية ستجرى في مايو المقبل ويحاول أردوغان زيادة ثقله السياسي ضد خصومه من خلال تطبيع العلاقات مع دمشق، فهذه فرصة جيدة للبيت الأبيض لرمي الحجارة في هذا المسار الدبلوماسي لإضعاف صورة أردوغان. لأن فشل أردوغان في عملية التطبيع سيعطي هذا العذر للخصوم الانتخابيين حتى يتمكنوا من جعل أردوغان مكروهًا من قبل الرأي العام وقلب الطاولة لصالحهم.
جهد أمريكا للحفاظ على معقلها في سوريا
منذ كانون الأول / ديسمبر 2017، عندما أعلنت روسيا نهاية خلافة داعش في سوريا والعراق، خسرت أمريكا أكبر أداة لها على دمشق، لذا حاولت استبدال الأكراد بجماعات إرهابية والتمكن من تنفيذ خططها بمساعدتهم، ومنذ ذلك الحين وهي تنهب موارد النفط السورية من خلال نشر قواتها في المناطق الشمالية. ودعم الأكراد هو غطاء للوجود الأمريكي طويل الأمد في شمال سوريا، وإذا أرادت هذه الجماعات تحقيق السلام مع الحكومة المركزية، فإن أمريكا ستعاني من نقص الموارد النفطية ولن يكون لديها عذر للبقاء في هذه دولة.
في هذه السنوات حاولت واشنطن استخدام الأكراد كأداة ضغط ضد حكومة بشار الأسد وكسب تنازلات سياسية، وهي بحاجة لهذه الجماعات لمواصلة لعبتها الخطيرة. إن اقتراب الأكراد من دمشق هو بطريقة ما نهاية الوجود الأمريكي في شمال سوريا، ولهذا السبب حاولوا منع التقارب بين الأكراد والحكومة المركزية.
خطة واشنطن محكوم عليها بالفشل
بينما تقوم الولايات المتحدة بإشعال النار في نفسها لمنع تطورات سياسية جديدة على الساحة السورية، لن يتم تنفيذ خطط البلاد الجديدة لأسباب مختلفة. أولاً، إن هذه الخطة تحاول إحلال السلام والوحدة بين تركيا والأكراد، وهو ما تظهره عقود من الخبرة أنه مستحيل. حيث لدى القادة الأتراك عداء طويل الأمد مع الجماعات الكردية السورية التي تتمثل بجناحها العسكري حزب العمال الكردستاني ووحدات الحماية الشعبية (YPD)، ويعتبرونها تهديدًا لأمنهم وسلامة أراضيهم، وهذه القضية مرتبطة بالأزمة السورية. حتى في العقود الماضية، فرضت الحكومة التركية العديد من القيود على الأكراد داخل البلاد من أجل السيطرة على تحركاتهم. إن اعتقال القادة الأكراد بذريعة العمل ضد الأمن القومي للبلاد يظهر أن أنقرة لن تساوم مع الأكراد بأي شكل من الأشكال وأن جهود واشنطن ليست سوى مضيعة للوقت.
ثانيًا، إذا افترضنا أن تركيا تريد الصلح مع الأكراد بدعم من الولايات المتحدة، فإن قضية التطبيع مع سوريا ستبقى غير حاسمة. لأن هذا يعني ترسيخ وجود المثلث الأمريكي - التركي - الكردي في شمال سوريا، وهو ما عارضته دمشق بشدة، وأردوغان لا يريد تعطيل مسار التطبيع. لذلك لن تتماشى مع الخطة الأمريكية لتوحيد الصداقة مع الجماعات الكردية التي ليس لها إنجازات خاصة، لأن تركيا تستفيد أكثر من التفاعل مع سوريا.
ثالثًا، تحاول أمريكا التظاهر بأنها لم تتخل عن الأكراد وإبقائهم في فلكها بخطة النقاط الست وإنشاء تشكيلات عسكرية جديدة، لكن القادة الأكراد لم يعودوا يثقون بمسؤولي واشنطن. مرتين، عندما بدأت تركيا هجماتها على المناطق الكردية في سوريا، تركت أمريكا بسحب قواتها الأكراد وشأنهم في مواجهة الجيش التركي.
جهود أمريكا في الحفاظ على مكانتها في سوريا كغيرها من المشاريع السابقة ستفشل، ومع تمهيد طريق التطبيع وعودة دول المنطقة إلى دمشق سيكون ذلك انتصارًا كبيرًا لسوريا ومطرقة على رأس واشنطن.