الوقت- لم تفلح كل الجهود التي بذلتها الفصائل الفلسطينية في إطلاق سراح العشرات من المعتقلين الفلسطينيين في سجون السعودية، إذ فاجأ القضاء السعودي ذوي المعتقلين مؤخراً في عقد محاكمات جائرة بحق العشرات من المعتقلين، وتراوحت الأحكام بين 5 أعوام إلى 22 عاماً. وتتهم السلطات السعودية المعتقلين الفلسطينيين الذين أقاموا على أراضيها طوال عشرين عاماً، "بدعم الإرهاب"، وذلك بعد إدانتهم بممارسة نشاطات خيرية تتمثل في جمع التبرعات التي تدعم صمود الشعب الفلسطيني وتدعم مقاومته. وكانت حركة حماس قد طالبت السلطات السعودية مرارًا بإنهاء ملف المعتقلين الفلسطينيين والإفراج عنهم، نتيجة لأوضاعهم الصحية والإنسانية التي تفاقمت منذ اعتقالهم، كما أكدت على استعدادها للحوار مع مختلف المستويات الوزارية والحكومية السعودية من أجل الوصول إلى حل لمصلحة المعتقلين.
هذا السلوك السعودي يدخل في خانة تنصل الرياض من اعتبار القضية الفلسطينية قضية عربية مركزية، فمع تولي محمد بن سلمان زمام الأمور في المملكة، وبعد وصول "دونالد ترامب" إلى الرئاسة الأمريكية قبل عدة سنوات، بدت السعودية وكأنها الوكيل العربي للاحتلال الاسرائيلي، فمواقفها أصبحت سلبية أكثر تجاه فلسطين وقضيتها، وداعمة بشكل صريح وواضح للكيان الإسرائيلي، ولا سيما مع اتفاقيات التطبيع التي وقعت من البحرين والامارات والسودان بضوء أخضر من الرياض.
وهذه الحملة التي شنتها السعودية على الفلسطينيين المقيمين على أراضيها منذ زمن انما تهدف لضرب مشروع المقاومة الفلسطينية، والحد من مظاهر التعاطف والدعم للقضية الفلسطينية في الداخل السعودي. كما تسعى لتغيير الصورة النمطية لحركة المقاومة الفلسطينية في عقول وأذهان العرب من خلال وصفهم بـ "الإرهاب". والجدير بالذكر أن عبارة الارهاب ضد المقاومة لا تستخدمها سوى الادارة الأمريكية والاحتلال الاسرائيلي، الأمر الذي يشكل انتهاكًا للحق الفلسطيني بمقاومة الاحتلال بكل الوسائل المتاحة، وفقًا للقانون الدولي الذي كفل حق المقاومة للشعوب الواقعة تحت نير الاحتلال.
وحول هذا السياق، قال "سامي أبو زهري" القيادي في حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، إن المعتقلين الفلسطينيين في السعودية يتعرضون للتعذيب بأشكال متعددة ويتم التحقيق معهم بشكل قاس. وأضاف "أبو زهري" في تصريحات صحفية إن محققين أجانب من جنسيات مختلفة يحققون مع المعتقلين، وأشار إلى أن حركته بذلت مساعي كبيرة للإفراج عن المعتقلين من خلال اتصالات مع دول وأخرى من خلال اتصالات مباشرة مع مسؤولين سعوديين، لكن لم يتمخض عنها شيء حتى اللحظة، مشددا على أن حركته لن يهدأ لها بال حتى إنهاء هذه الأزمة. وتعتقل السعودية -حسب مراكز حقوقية- العشرات ممن يحملون الجنسية الفلسطينية وآخرين من جنسيات عربية منذ عدة أشهر، وكانت حركة حماس أعلنت أن من بين المعتقلين ممثلها في السعودية محمد الخضري ونجله.
وعلى صعيد متصل، حث المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان السلطات السعودية على الكشف الفوري عن مصير عشرات الفلسطينيين ممن تعرضوا للإخفاء القسري وإطلاق سراحهم، ما لم يتم توجيه اتهام لهم على الفور بارتكاب مخالفة. وقال المرصد الأورومتوسطي -ومقره جنيف- إنه لم يستطع تحديد رقم دقيق لعدد المعتقلين من الفلسطينيين، غير أنه حصل على أسماء نحو ستين شخصا، في حين تشير تقديرات داخل الجالية الفلسطينية بالسعودية إلى أن العدد يفوق ذلك بكثير. وأضاف إنه استطاع توثيق شهادات 11 عائلة فلسطينية تعرض أبناؤها للاعتقال أو الإخفاء قسرا خلال الأشهر الأخيرة أثناء إقامتهم أو زيارتهم للسعودية.
وأوضح أنه تم عزلهم عن العالم الخارجي دون لوائح اتهام محددة أو عرض على جهة الاختصاص، ولم يسمح لهم بالاتصال بأقاربهم أو التواصل مع محاميهم. وقالت مسؤولة الاتصال والإعلام لدى المرصد الأورومتوسطي "سيلين يشار"، إن حملة الاعتقالات التي تستهدف الفلسطينيين تمثل حلقة في سلسلة طويلة من الانتهاكات التي تضاف إلى سجل المملكة المرعب في مجال حقوق الإنسان". وأوضح المرصد الحقوقي الدولي أنه رصد أيضًا عمليات احتجاز لحجاج من أصول فلسطينية، ويحملون جنسيات عربية خلال أدائهم فريضة الحج هذا العام، لكن عائلاتهم لا تزال تتكتم على ظروف احتجازهم على أمل إنهاء كابوس إخفائهم القسري والعودة من جديد لحياتهم الطبيعية.
كما ذكرت الشهادات التي سجلتها بعض التقارير الاخبارية أن بعض المعتقلين حُبسوا انفرادياً بين شهرين وستة أشهر، ثم نُقلوا إلى زنازين جماعية، وبعد ذلك سمحت لهم السلطات بالزيارات والاتصالات الهاتفية. وحسب تلك التقارير، فإن أحد المتهمين، الذي اعتُقل في أبريل عام 2019، وبقي في الحبس الانفرادي لثلاثة أشهر، قال لعائلته خلال زيارتهم الأولى له في يوليو إن السلطات استجوبته خلال تلك الفترة ثلاث مرات فقط، لمدة 20 دقيقة لكل منها. وفي هذا السياق، قال ثلاثة من أفراد العائلات إن أقاربهم أخبروهم أثناء زياراتهم للسجن إن السلطات عذبتهم أثناء الاستجوابات. وكشف هؤلاء الشهود أنه بعد احتجاز قريبهم بمعزل عن العالم الخارجي لـ 23 يوماً، سُمح لهم بزيارة عائلية، لكن بعد ذلك توقف الاتصال لمدة شهرين، موضحة أن المعتقل تمكن أخيراً من إخبار عائلته بأنه تعرض للتعذيب في أماكن مختلفة، منها غرفة في فندق وموقع تحت الأرض. وأكد قريب هذا المعتقل أن المحققين السعوديين كانوا يوقظونه الساعة 5 صباحاً ليضعوا رأسه في ماء ساخن، وفي بعض الأحيان كانوا يتركونه مُعلقاً رأساً على عقب لمدة يومين.
ويرى العديد من المراقبين أن المحاكمات التي يتعرض لها الفلسطينيون في السعودية لا يمكن أن توصف إلا بكونها محاكمات سياسية وقمعية غير عادلة، وتشكل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي والإنساني بالدرجة الأولى، وليس لها تفسير إلا التماهي مع أهداف الإدارة الأمريكية الرامية إلى تقويض وتجفيف منابع الدعم للمقاومة الفلسطينية، وهي تبنٍ للموقف الإسرائيلي الذي يعتبر المقاومة الفلسطينية إرهاباً، لأن قيام أي إنسان بدعم الشعب الفلسطيني لا يعتبر جرماً يحاسب عليه القانون، ولا يعد موضع شُبهة في الأساس. وأشار المراقبون إلى أن الهدف من هذا السلوك السعودي المشين تجاه كل من يدعم فلسطين ومقاومتها، هو التقرب إلى الاحتلال الصهيوني، وهذا يكشف زيف المواقف التي تبيعها السعودية للقضية الفلسطينية، بل يعد تنصلاً صريحاً من تبني القضية الفلسطينية كقضية مركزية لها عمق عربي وإسلامي.
وفي الختام يمكن القول إن السعودية اليوم في عهد "بن سلمان" تمارس دور الوكيل عن الاحتلال، وهي في الوقت ذاته تفتقد إلى القضاء العادل والشفاف، في ظل إجراء محاكمات سرية من دون توكيلات للمعتقلين، ومنعهم من حضور جلسات المحاكمة. وهذا السلوك يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن القضاء السعودي غير مستقل، ويتبع بشكل مباشر للتوجهات السياسية السعودية الجديدة في التعاطي مع القضية الفلسطينية، وليس لأسباب أمنية، كما تزعم بعض الأوساط السعودية، فما يجري اليوم من ملاحقة واعتقال هو محاولة صريحة لإيقاف كل ما يمكن أن يقوي ويعزز حضور ودعم القضية الفلسطينية والتعاطف معها في داخل السعودية.