الوقت_ ضجت وسائل الإعلام العربيّة بالخبر الذي كشفته صحيفة "هآرتس" العبريّة، حول محاولة "إسرائيل" تجنيد الصحافيّ الراحل محمد حسنين هيكل، الذي يعتبر أحد ابرز الصحفيين العرب والمصريين ويعد من أهم المفكريين منذ أيام الرئيس المصريّ الراحل جمال عبد الناصر، وفضحت هآرتس وثائق تكشف ما أسمتها "عملية معقدة" قامت بها المخابرات التابعة للعدو لتجنيد المستشار الأقرب للرئيس المصري حينها، ومحمد حسنين هيكل الذي يُعتبر أحد أبرز المقربين منه.
محاولات يائسة
على الرغم من أنّ ملف محمد حسنين هيكل المُسمى ضمن الملفات السريّة للاستخبارات الإسرائيليّة بـ "عوزي" والذي يغطي الفترة ما بين 1959 و 1960، النتيجة النهائية للمحاولات الصهيونيّة، وادعاء الصحيفة بأنّ الراحل هيكل ربما جُند أو استخدم للتأثير على السياسة المصريّة تجاه "إسرائيل" أو على الأقل لتغيير مسار الرأيّ العام المعادي لها، إلا أنّها أكّدت في الوقت ذاته أنّه عند مراجعة كتابات ومحاضرات هيكل الذي عمل رئيسا لتحرير جريدة "الأهرام" 17 عاما، منذ عام 1957 وحتى عام 1974، فإنّه من الصعب تصديق تحوله إلى "عميل للموساد الإسرائيليّ" في خدمة تل أبيب على الإطلاق، باعتباره كان وطنيًا شرساً، ومستاء من القوة المتزايدة للعدو باستمرار، ولم يكن من النوع الذي يُشترى بالمال.
"لا يوجد شيء في حياة محمد حسنين هيكل يوحي بإمكانية ابتزازه للتعاون مع الاستخبارات الإسرائيليّة"، هكذا أشارت صحيفة هآرتس التي أوضحت أنّ أفكار محمد حسنين هيكل وبلاغته أحدثا موجات تأثير كبيرة من خلال مقالاته المتكررة في صحيفة الأهرام العريقة، وقد أعطت هذه المقالات منظورا فريدا من الداخل لصانعي السياسة الفضوليين في كيان الاحتلال ومحللي المخابرات في الستينيات حسب توصيف الصحيفة العبريّة، حيث كانت العديد من نشرات الأخبار الإسرائيليّة تفتتح نشراتها بالإشارة إلى مقالات وتحليلات الصحفيّ البارز هيكل في تلك الجريدة.
ومن الضرويّ الإشارة إلى أنّ الكاتب والصحفيّ المصريّ محمد حسنين هيكل كان قد فضح العلاقات التي تربط النظام الملكيّ المغربيّ بالكيان الصهيوني وأظهر أنّها "عميقة ومتجذرة" حيث أوضح أنّ ملك المغرب الحسن الثاني، سمح لجهاز المخابرات التابع للعدو “الموساد”، بزرع أجهزة تنصت في القاعة المحتضنة لاجتماعات القمة الثالثة لجامعة الدول العربيّة، التي انعقدت بالدار البيضاء عام 1965 ، والدليل وصف الصحيفة العبريّة لهيكل بأنّه كان مراسلًا صحفيّاً جريئًا، يتجول في عواصم بلاد الشام وساحات القتال، ويغطي حروب الآخرين ويكتسب سمعة الاتصالات والشجاعة والتماسك، مضيفة إنّ " آراءه بشأن إسرائيل كانت مزيجاً من الإحباط والإعجاب".
وكان محمد حسنين هيكل أكثر أصدقاء الرئيس جمال عبد ناصر إثارة للإعجاب وقد ترأس مجلس إدارة مؤسسة "أخبار اليوم" ومجلة "روز اليوسف" في مرحلة الستينيات، وفي عام 1970 عين وزيرا للإعلام، ولم يكن يريد منصبًا رسميا، لكنه وافق بعد وقت طويل على الخدمة لفترة وجيزة كوزير للإرشاد الوطني، وكان له تأثير كبير على التفكير الناصريّ، بزعم الصحيفة التي تحدثت أنّ هيكل صرح في مقابلة عام 1988 مع مجلة الدراسات الفلسطينيّة، عقب فترة طويلة من خروجه من مركز السلطة، مقدما رواية مذهلة وغير مؤكدة عن اجتماعين مع ديفيد بن غوريون (في القاهرة) في عام 1946، ومقابلة في القدس في أوائل عام 1948، وعلاقات حميمية مع الجناح الأكثر اعتدالًا من الجالية المصريّة اليهوديّة، وزيارات إلى فلسطين تحت الانتداب البريطانيّ.
وفي هذا الإطار كشفت الوثائق أن المخابرات الإسرائيليّة سعت بقوّة إلى عقد لقاء مع الراحل هيكل في مدينة نيويورك، عبر وسيط وتحت غطاء العمل الصحفيّ من خلال إعلاميّ اسمه غير الحقيقيّ "سانت جون"، لترتيب اللقاء حين كان هيكل يشارك في زيارة عبد الناصر للأمم المتحدة، لمحاولة الالتقاء بهيكل والتقرب منه أو تجنيده، لكن الموساد الإسرائيليّ أصيب بخيبة أمل، حيث غادر هيكل المدينة قبل أن يتمكن "جون" من اعتراضه أو الالتقاء به، ولم يستطع الصهاينة إخفاء إحباط مهمتهم، "فقد طار الطائر من القفص قبل لحظات من الإمساك به" وفقاً لتوصيف الصحيفة التي بيّنت أنّ تلك الترتيبات كان يقف وراءها العميل المصريّ مع العدو أشرف مروان، بالتنسيق مع جهاز الاستخبارات الإسرائيليّ.
مواقف بطوليّة
منذ بداية مشواره كان محمد حسنين هيكل على يقين بأنّ الطريق نحو تحرير فلسطين وعاصمتها القدس يمر من الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة وسوريا العروبة ولبنان المقاوم، فهو الناصري الذي خالطت المقاومة والممانعة والعروبة لحمه ودمه وروحه كما يُقال، وهذا ما عُرف به خلال مسيرته، لذا كان دائماً ما يُنبه وينقد اصطفاف بعض العرب الذي يُوصف بأنّه "تعصبيّ جاهليّ" في وجه محور المقاومة، وكانت إحدى آخر جمله المعروفة بذم أولئك الخانعين: "إن المنطقة اليوم تخلو من صاحب صمود لولا الأسطورة الإيرانيّة في وجه غطرسة المشاريع الصهيو-أمريكيّة"، واعتبر الأخير أنّ طهران تُشكل تحديّاً وحيداً للولايات المتحدة في المنطقة.
أيضاً، كان واضحاً للراحل البارز أن سياسات واشنطن المستجدة مع "أوباما" ليست هي من غيّرت المنطقة بل صمود الإيرانيين الذي أجبر العالم على الاعتراف بحقوقهم المشروعة والتي تصب في مصلحة وطنهم والأمة الاسلامية ودرب تحرير فلسطين، حيث کان بین أوائل من حاوروا الإمام الخمیني بمنطق المتفهم والمساند ولکن من موقع عربيّ، کما عرف الکثیر من قیادات الثورة من متابعي نهج الإمام بعد رحیله وأبرزهم "هاشمي رفسنجاني" رئیساً ورکناً في قیادة الحکم لفترة طویلة، وهو الذي وصف ما تمثله إیران بـ "الطموح المستقل" الذي وصل إلى حد المعرفة النوویّة وأن النظام في إیران هو الرافض للهیمنة الأمریکیة منذ الثورة ولا يزال، وان فشل البيت الأبيض حتى الآن في تطویع الثورة الإیرانیة أو استبدالها بنظام آخر یضعها أمام نزاع خطر في وقت يتقدم فيه الايرانيون في ميادين عدة.
وما ينبغي قوله، إنّ ما ذُكر هو غيضٌ من فيض المواقف والتصريحات المشرفة، التي كانت توصف بـ "الحازمة والجريئة" لهيكل لمساندة فلسطين وداعميها، إضافة إلى حركات المقاومة في زمن الخنوع العربيّ أمام المحتل الأمريكيّ وذراعه الصهيونية التي تفصل شرق الوطن العربيّ عن غربه، فقد كان بالفعل صاحب الكلمة الحرّة والجريئة، وأستاذاً حقيقيّاً في الصحافة النزيهة والهادفة، فيما تبقى عباراته الحزينة وذكرياته الجميلة التي تركها، عنواناً عريضاً لمسيرته المشرفة.
في النهاية، سيبقى محمد حسنين هيكل أحد أهم وأبرز ظواهر الثقافة العربيّة في القرن العشرين، ومؤرخًا للتاريخ العربيّ الحديث وخاصةً تاريخ الصراع العربيّ مع المحتل الصهيونيّ، وستظل تحقيقاته ومقالاته في العديد من صحف العالم شاهداً على مواقفه، فهو الذي نشر خلال سنوات حياته أحد عشر كتاباً في مجال النشر الدوليّ ما بين 25- 30 لغة تمتد من اليابانية إلى الأسبانية، من أبرزها "خريف الغضب" و"عودة آية الله" و"الطريق إلى رمضان" و"أوهام القوة والنصر" و"أبو الهول والقوميسير"، وكان له 28 كتاباً باللغة العربيّة من أهمها "مجموعة حرب الثلاثين سنة" و"المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل".