الوقت - الحكم الذاتي هو نظام سياسي وإداري واقتصادي يحصل فيه إقليم أو أقاليم من دولة على صلاحيات واسعة لتدبير شؤونها بما في ذلك انتخاب الحاكم والتمثيل في مجلس منتخب يضمن مصالح الأقاليم على قدم المساواة. وبناء عليه تكون الفدرالية شكلاً متقدما من أشكال الحكم الذاتي.
و الحكم الذاتي نقيض للمركزية، حيث تحتاج الدول التي تمارسه إلى أن تتخلى سلطاتها المركزية عن جزء مهم من صلاحيات تدبير الأقاليم اقتصادياً و سياسياً و اجتماعياً لتتم ممارسته على المستوى المحلي. ونماذج الحكم الذاتي في العالم كثيرة ومتعددة. وحجم الصلاحيات التي تتمتع بها الولايات والأقاليم موضوع الحكم الذاتي يختلف من حالة لأخرى، ويخضع للتطور.
في هذا المقال يدور الحديث حول مساعي الأكراد في سوريا لإقامة حكم ذاتي في مناطقهم من حيث القدرات المتاحة لهم والتي تؤهلهم لذلك، والمعوقات التي تحول دون تحقيق هذا النوع من أنظمة الحكم.
نبذة مختصرة:
لم يحظ أكراد سوريا باهتمام الباحثين بالقضايا السياسية في الشرق الأوسط قبل عام 2011. ويشكل الأكراد في سوريا أقلية لاتتجاوز نسبتها 10 بالمئة من مجموع سكان البلاد، وأغلبهم من المسلمين السنة، وبعضهم من الإيزيديين إضافة إلى عدد قليل من المسيحيين و العلويين الأكراد. ويعيش معظمهم في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا في القامشلي و رأس العرب، وفي بلدتين صغيرتين في محافظة حلب شمال سوريا هما عين العرب (كوباني) وعفرين (جبل الأكراد) والمناطق المحيطة بهما.
وبعد اندلاع الأزمة السورية عام 2011 برزت أهمية الأكراد في هذا البلد، وخصوصاً بعد أن بدأوا يطالبون بإدارة شؤونهم بأنفسهم، فيما يرجح مراقبون بأنهم سيطالبون بالحكم الذاتي وقد يعلنون الاستقلال في المستقبل.
ومنذ بداية الأزمة إنقسمت الأحزاب السياسية الكردية في سوريا إلى فصيلين رئيسين؛ الأول تمثل بالمجلس الوطني الكردي(Kurdistan National Council of Syria) والثاني بمجلس غرب كردستان(National Council of West Kurdistan). ومعظم الأطراف التابعة لهذين الفصيلين تأثرت و تتأثر بشكل مباشر بالأحزاب الكردية العراقية لاسيما حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال طالباني والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمه رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني. وتتبنى أحزاب المجلس الوطني الكردي مشروعاً فيدرالياً بحيث يكون للمنطقة الكردية وضعها الخاص بما يتناسب مع التشكيلة القومية والدينية لهذه المنطقة.
وبعد ظهور تنظيم (داعش) الإرهابي واستيلائه على مناطق كثيرة في سوريا لاسيما في شمال وشمال شرق هذا البلد أولت الحكومة السورية إهتماماً خاصاً بالأكراد و قامت بتسليحهم و دعمهم لوجستياً لاستعادة المناطق التي إحتلها (داعش) إلى أن تمكن الأكراد من تحرير معظم مناطقهم في محافظتي الحسكة و حلب ومن بينها عين العرب (كوباني) من يد هذا التنظيم.
ونتيجة لهذه التطورات برز الأكراد كقوة مؤثرة في شمال و شمال شرق سوريا خصوصاً بعد تحريرهم لمدن عفرين و ديرك في حلب. وتمكنوا من إدارة شؤون المناطق الواقعة بين مقاطعات كوباني وعفرين والجزيرة رغم الصعوبات التي تواجههم في مختلف المجالات لاسيما في الجانبين الأمني والاقتصادي.
وحظي أكراد سوريا بدعم إقليم كردستان العراق لوجود أواصر تاريخية مشتركة بين الطرفين بالاضافة إلى القرب الجغرافي، وتجلى هذا الدعم بوضوح أثناء تحرير مدينة عين العرب (كوباني) من عناصر تنظيم (داعش) الإرهابي.
وساهمت قيادة إقليم كردستان العراق كذلك في حل الخلافات السياسية التي حصلت في أوقات مختلفة بين الفصائل الكردية السورية بالاضافة إلى قيام الإقليم بتقديم الدعم العسكري و اللوجستي لهذه الفصائل لمواجهة تهديد الجماعات الإرهابية في المناطق الكردية داخل الأراضي السورية.
وحظي أكراد سوريا كذلك بدعم المجتمع الدولي ومنظماته الحقوقية والانسانية لاستعادة مناطقهم وتحريرها من العناصر الإرهابية بفضل الجهد الاعلامي الذي بذله النشطاء السياسيين الأكراد في هذا المجال لاسيما في الدول الغربية. ونتيجة هذه الجهود والانتصارات المهمة التي حققوها على الجماعات الإرهابية في كثير من مناطق شمال وشمال شرق سوريا يتمتع الأكراد الآن بمشروعية كاملة في المحافل الدولية لمواجهة الإرهابيين والدفاععن حقوقهم الإنسانية. وهذا ما صرح به مؤخراً وبشكل واضح (ستيفان دي ميستورا) المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى سوريا.
ويعتقد المراقبون أن الدعم الدولي الذي يحظى به أكراد سوريا قد يؤهلهم في المستقبل لبسط نفوذهم السياسي على كافة المناطق التي تقع تحت سيطرتهم في الوقت الحاضر في شمال وشمال شرق البلاد نظراً لما يتمتعون به من قدرة عسكرية وخبرة ميدانية وقابلية ملفتة على مواجهة التحديات والمخاطر الناجمة عن الهجمات المباغتة التي تشنها الجماعات الإرهابية على مناطقهم بين الحين والآخر.
وفي وقت سابق أعلن الأكراد في منطقة كوباني، وهي الإسم الكردي لناحية (عين العرب) في محافظة حلب، منطقة حكم ذاتي، وذلك بعد أسبوع على إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا تشكيل حكومة محلية في منطقة الجزيرة السورية بهدف ملء الفراغ الأمني والإداري ولتأمين احتياجات سكان المقاطعة الاجتماعية والاقتصادية والأمنية. وفي حينها أعلن وزير الإعلام السوري عمران الزعبي أنه من الممكن مناقشة موضوع الإدارة الذاتية للمناطق الكردية شمال البلاد وفق القوانين والأنظمة والدستور.
وقبل عدة أشهر استنكرت فصائل كردية سوريّة ما أسمته الشائعات التي تتحدث عن نية الأكراد إقامة حكم ذاتي في الشمال، مؤكدة تمسكها بوحدة أراضي البلاد. وصرحت بروين ابراهيم رئيسة التجمع الأهلي الديمقراطي للكرد السوريين: إن الحكومة السورية موجودة، وقادرة على إحتواء أي مشروع كان، مشيرة إلى أنه لا يوجد أي مشروع خارج اطار السيادة السورية ونريد طمأنة الشعب السوري في هذا الأمر.
ورغم محاولات تركيا المتكررة لإثارة الخلافات بين أكراد سوريا، ومساعيها لإضعاف موقفهم السياسي من خلال إتهام فصائلهم المسلحة بالإرهاب بسبب رفضهم الرضوخ لإملاءاتها، أيقنت أنقرة مؤخراً بأن هذه المحاولات لم تعد مجدية لأن الفصائل الكردية أدركت تماماً أبعاد اللعبة التي تحاول من خلالها بعض الدول الغربية و الإقليمية إدامة النزاعات بين المكونات العرقية و القومية و الطائفية لشعوب المنطقة. و يعوّل أكراد سوريا على روسيا في الحصول على حكم ذاتي لمناطقهم خصوصاً بعد قرار موسكو المشاركة عسكرياً و بشكل مباشر و مؤثر في ضرب مقرات ومواقع الجماعات الإرهابية في سوريا والذي مهّد الأرضية لمزيد من التنسيق بين الأطراف التي تتصدى لهذه الجماعات في العراق وسوريا و في عموم المنطقة. وهذه التطورات بحسب المتابعين من شأنها أن تقوي موقف الأكراد العسكري و السياسي و تضاعف لديهم القدرة والاصرار للقضاء على الجماعات الإرهابية وتهيئة الظروف المناسبة لاستعادة الأمن و الاستقرار في مناطقهم و تحقيق تطلعاتهم بعيداً عن أي تهديد أجنبي.