الوقت- يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان سافر إلى نيويورك بأهداف وآمال خاصة، للمشارکة في الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي بدأت أعمالها في 21 سبتمبر.
لكن يبدو أن أردوغان لن ينجح في تحقيق أهدافه، ولإثبات ذلك يكفي أن نشير إلی إذلاله عند مدخل مطار نيويورك.
في الواقع، أصبح وجود أردوغان في نيويورك إهانةً له ولأجهزة السياسة الخارجية التركية، لأنه لم يتم استقباله في المطار، بل كان في استقبال أردوغان وهو برفقة زوجته "أمينة أردوغان" في المطار، وزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو الذي كان على متن نفس الطائرة معه. ويُنظر إلى هذا الحادث الآن على أنه إذلال كبير لأردوغان، ويشير هذا الاستقبال المهين إلى أن أردوغان سيفشل في تحقيق أهدافه أيضًا.
رسالة بايدن الرمزية إلى أردوغان
علی الرغم من أن أردوغان لم يقم بزيارة رسمية إلى نيويورك، بل كان سبب وجوده هو المشارکة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن عدم استقباله من قبل وزارة الخارجية الأمريكية - حتى على أدنى مستوى ممكن - يمكن اعتباره في الأساس رسالةً رمزيةً من إدارة بايدن إلى رجب طيب أردوغان.
لا يخفى على أحد أن الحكومتين الأمريكية والتركية قد شهدتا أزمات كبيرة في علاقاتهما في السنوات الأخيرة، لكن ليس هناك شك في أنه بالإضافة إلى التوترات المؤسسية، يمكن اعتبار العداء والخلافات في الرأي بين الرئيس جو بايدن والرئيس الترکي متغيرًا مؤثراً في إهانة أردوغان الجديدة في مطار نيويورك.
يمكن رؤية أهم مظاهر الخلافات الشخصية بين بايدن وأردوغان، خلال مقابلته مع صحيفة نيويورك تايمز في ديسمبر 2019، حيث وصف أردوغان صراحةً بأنه "استبدادي" ودعا الولايات المتحدة إلى دعم معارضي حزب العدالة والتنمية لإزاحته من السلطة.
بعد أن تولى بايدن منصبه، اعتقد العديد من المراقبين السياسيين أيضًا أن "حقوق الإنسان" و"الأكراد" من المرجح أن يكونا قضيتين حساستين للإدارة الديمقراطية المقبلة في البيت الأبيض، وهو ما قد يصحبه تدخل جدي من جانب مسؤولي واشنطن في الشؤون الداخلية لتركيا.
حتى أن نهج بايدن المناهض لأردوغان تبلور في 24 أبريل 2021، خلال قراره الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، مما زاد من مستوى التوتر بين الجانبين.
ورغم أنه من الجدير بالذكر أن بايدن وأردوغان التقيا على هامش قمة الناتو في بروكسل في 14 يونيو 2021، ولکن لا يبدو أن هذا الاجتماع كان له أي تأثير ملموس على العلاقات بين البلدين.
بشكل عام، يمكن القول إن عدم استقبال أردوغان خلال زيارته الأخيرة إلى نيويورك، هو استمرار لنهج واشنطن الصارم تجاه حزب العدالة والتنمية وأردوغان نفسه. وتبعث هذه الخطوة برسالة رمزية مفادها أن الحكومة الأمريكية خلال رئاسة بايدن للبيت الأبيض، لا ترغب في مصادقة أردوغان ولن تستقبله كحليف موثوق به.
سعي أردوغان لإنقاذ الاقتصاد التركي
واجهت الحكومة التركية، بقيادة رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، أزمةً اقتصاديةً كبيرةً في السنوات الأخيرة. وقد أدت جائحة كورونا في العامين الماضيين إلى تفاقم الوضع الاقتصادي المزري في البلاد.
هذا في وقت قطع فيه الاقتصاد التركي خطوات كبيرة في مختلف المجالات والمؤشرات، في السنوات التي تلت تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في عام 2002، لكننا نرى أنه في السنوات التي أعقبت الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، أصبح الاقتصاد التركي ضعيفًا للغاية ويتقلص باستمرار.
کما أدت حملات القمع المستمرة والاعتقالات السياسية والأمنية بعد الانقلاب إلى خفض النمو الاقتصادي بشكل كبير، بالإضافة إلى تضاعف الإنفاق الحكومي في سوريا والعراق بسبب تدخلات تركيا في سوريا والعراق. وبالتزامن مع هذا الاتجاه، أدى انتشار كورونا، وانخراط جهات أجنبية في سوق الصرف الأجنبي والمالي التركي، إلى تدهور الاقتصاد التركي.
وفي مثل هذه الظروف، حاول أردوغان التعامل مع الأزمة الحالية من خلال التلاعب والتدخل المباشر في الشؤون المصرفية. ومع ذلك، فإن تدخلات أردوغان المالية والمصرفية غير المهنية واستمرار وباء كورونا، الذي أصاب صناعة السياحة في تركيا بالشلل تقريبًا، وهي إحدى الركائز الاقتصادية للبلاد، لم تحسن اقتصاد البلاد فحسب، بل شهدت قيمة الليرة التركية والتضخم والبطالة في البلاد اتجاهاً سلبياً.
على سبيل المثال، تُظهر الإحصاءات الرسمية أنه في السنوات الأربع الماضية في تركيا، تمت إضافة 3 ملايين و 578 ألف شخص إلى السكان العاملين في تركيا(من خريجي الجامعات والقطاعات الأخری).
ووفقًا لآخر إحصائيات معهد الإحصاء التركي، في أغسطس 2021، ارتفع التضخم بنسبة 1.12٪ إلى معدل تضخم سنوي قدره 19.25٪. وفي قطاع الإسكان أيضًا، فإن التضخم والاضطراب وعدم اليقين لم يسبق له مثيل، كما ارتفعت أسعار المساكن، في كل من مجالي الشراء والإيجار، بشكل كبير.
وفي مثل هذه الحالة، قبل رحلته إلى نيويورك، صرح أردوغان في بيان أنه "في أقصر وقت ممكن، سنسيطر على التضخم ونمنع الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الموجودة على الرفوف".
وفي مثل هذا الوضع الصعب، يبدو أن أردوغان يأمل في تحسين الوضع الاقتصادي للبلاد من خلال تخفيف التوترات مع إدارة بايدن والقضاء على مخاطر عقوبات البيت الأبيض المحتملة، وذلك من أجل تجنب الهزيمة في الانتخابات البرلمانية، وكذلك الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023.
حقيقة الأمر هي أن أردوغان وكبار المسؤولين في حزبه، يدركون جيدًا أن فرصتهم ضئيلة للفوز في الانتخابات المقبلة إذا لم يسيطروا على الأزمة الاقتصادية في تركيا ويديرونها.
محاولة أردوغان نزع فتيل التوترات مع الولايات المتحدة
على مستوى آخر، يسافر أردوغان إلى نيويورك لمتابعة وقف التصعيد مع الولايات المتحدة.
على مدى العقد الماضي، حصلت هنالك أزمات مثل شراء ترکيا لنظام الدفاع الصاروخي S400، هجوم تركيا على المواقع الكردية شمال سوريا، وتضارب سياسات أنقرة مع السياسات الكلية لحلف شمال الأطلسي في منطقة غرب آسيا والبيئة الدولية؛ وكانت جميعها عوامل أثرت سلبًا على مستوى العلاقات التجارية والاقتصادية والأمنية والعسكرية بين الحليفتين السابقتين، أنقرة وواشنطن.
ومع ذلك، يبدو في الوضع الحالي أن أردوغان وفريق سياسته الخارجية قد وضعوا علی جدول أعمالهم استراتيجية خفض التصعيد مع واشنطن.
حتی في الآونة الأخيرة، رأينا أنه قبل زيارة أردوغان لنيويورك، تحدث مولود جاويش أوغلو، في تصريحات تهدف إلى استرضاء الولايات المتحدة، ضد إجراء الانتخابات في شبه جزيرة القرم.
حيث صرح وزير الخارجية التركي أن الانتخابات البرلمانية الروسية في شبه جزيرة القرم ليس لها أي أثر قانوني على أنقرة، مشيراً إلی أن تركيا لا تعترف بضم شبه الجزيرة إلى روسيا. وتظهر هذه التصريحات بوضوح أن أنقرة أرسلت إشارةً إيجابيةً إلى بايدن، قبل زيارة أردوغان لنيويورك.
في الواقع، يعتزم أردوغان إرسال رسالة إلى البيت الأبيض مفادها، أنه في الوضع الجديد مستعد للتوافق مع مواقف السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
لكن الحقائق على الأرض تشير إلى أن جهود أردوغان لن تتكلل بالنجاح، لأن ما يتوقعه البيت الأبيض وبايدن من أنقرة وأردوغان هو تغيير كبير في استراتيجية السياسة الخارجية للبلاد، ومراجعة شراء نظام S400 وإجراءات تركيا في شمال إفريقيا وغرب آسيا، وهو الأمر الذي من المستحيل لترکيا تنفيذه عمليًا.