الوقت- واجه العراق مستويين من انعدام الأمن والتهديدات الأمنية في السنوات التي أعقبت عام 2003. أولها كانت في أعقاب أجواء الانفلات الأمني منذ الأيام الأولى للاحتلال؛ وثانيها في السنوات الأخيرة، التي شهدت تحديات من نوع آخر كاستمرار هجمات الجيش التركي على المناطق الشمالية من البلاد، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية في السنوات التي تلت عام 2014. وآخرها الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق عام 2017 والذي تم من دون موافقة الحكومة المركزية في بغداد، هذه بعض الأحداث التي تسببت في أن يعيش العراق أجواء ملتهبة وغير آمنة منذ الايام الاولى للاحتلال الامريكي وحتى السنوات الاخيرة. وقد دفع ذلك مسؤولي الحكومة العراقية إلى بذل جهود كبيرة لتزويد الجيش والقوات الأمنية بالأسلحة التي يحتاجونها إضافة إلى تطويرها وزيادة كفاءتها. في غضون ذلك ، يدّعي الأمريكيون، من جهة، تلبية احتياجات العراق العسكرية ويعارضون شراء بغداد أسلحة من دول أخرى؛ ولكن من ناحية أخرى، تعتبر الحكومة العراقية خدمات الأمريكيين غير كافية وتريد شراء أسلحة وإمدادات عسكرية من بائعين دوليين آخرين، وهو ما قوبل بالطبع بمعارضة من الولايات المتحدة. كانت هذه القضية محل نقاش ساخن من قبل المسؤولين السياسيين والعسكريين العراقيين في الأشهر الأخيرة، وخاصة فيما يتعلق بشراء منظومات دفاعية صاروخية متطورة وكذلك شراء طائرات مقاتلة حديثة. وهو ما تسبب بتوترات بين بغداد وواشنطن، حتى أصبح التفاوض بشأن هذه القضية من أهم مواضيع الحوار الاستراتيجي بين الجانبين. لكن السؤال الأهم الآن، لماذا مالت الحكومة العراقية في السنوات الأخيرة إلى عقد صفقات أسلحة وتقوية علاقاتها العسكرية مع دول أخرى إضافة إلى الولايات المتحدة؟
صفقة مقاتلات F-16 الأمريكية وميل العراق نحو الأسلحة الروسية
يمكن تقييم الدافع الأول وربما الأهم للحكومة العراقية للابتعاد عن الأسلحة الأمريكية والميل نحو التسليح الروسي هو صفقة شراء طائرات F-16 الحربية ولوازمها. تقول القصة إن القوات الجوية العراقية اشترت 36 طائرة مقاتلة من طراز F-16 Viper من شركة "Lockheed Martin" الأمريكية بموجب عقد عسكري في عام 2011، لكن اثنين من الطائرات قد فقدتا في الجولة الأولى من التدريب! أما المقاتلات الـ34 المتبقية فقد تم تكليفهم في سرب الصيد التاسع في قاعدة بلد الجوية على بعد 64 كم شمال بغداد. منذ البداية ، رفضت واشنطن تسليم المقاتلات في الوقت المحدد, أي في سنة 2014، ومن 2014 إلى 2017 تم تسليم 34 طائرة من طراز F-16 إلى العراق. وبعد تسليم المقاتلات، التي أثار تأخر تسليمها موجة من الاستياء في المجتمع السياسي العراقي، أضيفت قضية الدعم الفني الذي تحتاجه تلك المقاتلات من قبل خبراء فنيين أمريكيين مشكلة جديدة إلى الحكومة العراقية. حيث تشير الأدلة إلى أنه من بين 34 مقاتلة من طراز F-16 المتمركزة في قاعدة البلد، هناك ما لا يقل عن 10 طائرات غير قادرة على الطيران إطلاقا. أما المقاتلات الـ 24 المتبقية، فنصفهن تقريبا قادرات فقط على الطيران لكن يفتقرن إلى الرادارات وإلكترونيات الطيران المناسبة. في الواقع، لم تقدم شركة "لوكهيد مارتن" المصنعة لتلك لطائرات المقاتلة دعمًا خاصًا وخدمات فنية للحكومة العراقية، والتي تعاقدت مع شركة "سالي بورت" الأمريكية والمتخصصة في حماية وصيانة مقاتلات قاعدة بلد الجوية، ولكن وزارة الدفاع العراقية قررت مؤخرا إنهاء العقد معها وطلبت منها مغادرة القاعدة. وكنتيجة لذلك، فقد أعلن المسؤولون العراقيون الآن صراحة عزمهم على شراء طائرات مقاتلة روسية اعتبارًا من أغسطس 2020. حيث وضعت بغداد على جدول الأعمال شراء المقاتلة Sukhoi 57، أقوى مقاتلة روسية، و MiG-29 المجهزة بصواريخ جو - جو ورادار موجه ذاتيًا. وهذا يشير إلى أن السياسيين العراقيين، بعد خلف الوعود الأمريكية بشأن المعدات الجوية، قد فقدوا ثقتهم بالولايات المتحدة ويسعون للعمل مع روسيا لتعزيز قواتهم الجوية.
مسألة المماطلة في توفير احتياجات العراق العسكرية
إضافة إلى قضية الطائرات المقاتلة من طراز F-16، تواجه الحكومة العراقية العديد من النواقص والمشاكل في تلبية احتياجاتها في مجال الدفاع الجوي الصاروخي وأنظمة الهجوم الإستراتيجي، وكذلك في توفير الرادارات العسكرية. على مدى العقدين الماضيين، أبدت بغداد مرارًا وتكرارًا رغبتها بشراء أسلحة عسكرية متطورة، وخاصة في مجال الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي، لكن في كل مرة تتجاهل واشنطن هذا الموضوع. هذا في الوقت الذي كان فيه الأمريكيون يبيعون الأسلحة على نطاق واسع للنظام الصهيوني والدول المطلة على الخليج الفارسي. وقد دفع ذلك المسؤولين العراقيين إلى السعي إلى تعزيز دفاعاتهم الجوية من خلال التعاون مع روسيا لشراء نظام الدفاع الصاروخي S400 منها. من ناحية، انزعج العراقيون بشدة من تسويف الأمريكيين وعدم اكتراثهم بتلبية احتياجاتهم العسكرية، ومن ناحية أخرى، فهم يدركون مدى كفاءة الأسلحة العسكرية الروسية، خاصة في مجال الدفاع الجوي، وهي أكثر ملاءمة من حيث السعر والجودة من نظام باتريوت الأمريكي.
الاثر السلبي للولايات المتحدة على سياسة العراق الداخلية وعلاقاته الخارجية
على صعيد آخر، فقد أصبحت تصرفات الحكومة الأمريكية في العراق على مدى السنوات القليلة الماضية حافزًا جديدًا للحكومة العراقية لتجاوز واشنطن وتنويع سوق أسلحتها. كانت حكومة الولايات المتحدة على تنسيق مع الحكومة العراقية منذ عام 2009 بموجب اتفاقية التعاون العسكري والأمني، لكنها لم تفِ بالتزاماتها. كما وأصبح دور واشنطن في ظهور داعش ودعمها وتحوله إلى حقيقة ملموسة، أمراً لا يمكن إنكاره وخصوصاً في السنوات القليلة الماضية. بالإضافة إلى ذلك، فإن معارضة الولايات المتحدة لقرار البرلمان العراقي بإخراج القوات الأجنبية من البلاد، والذي تمت الموافقة عليه في 5 كانون الثاني (يناير) 2020، هي قضية مهمة أخرى زادت من الاستياء العراقي من التدخلات الأمريكية. كما أن الهجمات غير القانونية على قوات المقاومة العراقية مما يسمى بالتحالف الدولي ضد داعش الذي تقوده واشنطن كانت خطوة أخرى زادت من انعدام ثقة الجانب العراقي في السياسات الأمريكية. تلك الاسباب مجتمعة، قد أدت إلى أن تبحث بغداد عن أسواق جديدة لشراء الأسلحة والتحول عن الاعتماد البحت على الولايات المتحدة؛ هذا لأن الأخير أظهر أنه ليس فقط غير موثوق به، ولكنه يتخذ كل خطوة ممكنة لإبقاء العراق ضعيفًا وغير آمن من أجل الحفاظ على وجوده.
تأثير مجموعات المعارضة في الحكومة ومجلس الوزراء العراقي على الشراكة العسكرية مع واشنطن
يمكن رؤية قضية أخرى مهمة في ارتفاع صوت الحكومة العراقية بإعادة النظر في التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، وهو شرعية وتمكن أحزاب المعارضة المناهضة لأمريكا في هيكل الحكومة العراقية. في الواقع ، أصبح الخطاب المعادي لأمريكا في السنوات الأخيرة هو الخطاب السياسي الأكثر شعبية في المجتمع العراقي، والآن تطالب معظم التيارات السياسية في البرلمان العراقي بإنهاء وجود القوات الأجنبية في العراق. إن تزايد شعبية هذه المجموعات المعارضة بين أبناء الشعب العراقي، أن خطاب طرد المحتلين أصبح تياراً سياسياً مهماً في البلاد، قد ترك آثارًا غير مباشرة وجديدة على نهج الحكومة العراقية. في الواقع، إضافة إلى التخريب العسكري الأمريكي الواضح للجميع، أثر خطاب إخراج الوجود العسكري الأمريكي والمطالبة بتقليل التعامل معه، على نهج بغداد في إعادة النظر في تعاونها العسكري مع واشنطن.