الوقت- لم تكن الخطوة الروسية إلا ضمن مسارٍ من الإنجازات التي حققها محور المقاومة إقليمياً، والدول المعادية لواشنطن دولياً. لتكون النتائج من ذلك، كارثيةً، على كل من يدور في فلك السياسة الأمريكية. فالدول الغربية بأجمعها أعلنت الرضوخ للمرة الثانية للخطوة الروسية، بعد أن جمعها الرضوخ لبرنامج إيران النووي. وبين الدول الغربية والشرق الأوسط، حكاية حول أمن الأنظمة الحليفة العربية لا سيما الدول الخليجية، الى جانب أمن الكيان الإسرائيلي. ليكون الأثر مباشراً على هذه الأطراف. أما بالنسبة لتل أبيب فقد بدت علامات الخوف والقلق جراء الأوضاع الأخيرة المستجدة، على لسان القيادات الإسرائيلية وهو ما نقلته الصحف. فكيف بدا هذا الخوف؟ وماذا خسر الإسرائيليون؟
أولاً: تقرير حول الخوف الإسرائيلي الصريح
رأت صحيفة "إسرائيل هيوم" العبرية، أن مناخاً جديداً يسود المنطقة ترعاه للأسف واشنطن ولو على مضض. وفي مقالٍ تحت عنوان "لا أخيار ولا أشرار: الكل شركاء"، أشارت الصحيفة الى أن كل ما تخشاه تل أبيب يتحقق، فواشنطن قامت بإبرام اتفاقٍ نوويٍ مع إيران، ترى فيه تل أبيب أنه سيشكل تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي. كما أنها اليوم (أي أمريكا) أصبحت تتباحث مع روسيا الداعمة لسوريا الأسد، والتي تتعاون مع طهران وتدعم حزب الله. بالإضافة الى ذلك فإن أوروبا بعد أن شهدت أزمة لاجئين في عدد من البلدان باتت مستعدة للتباحث مع الأسد أيضاً. وهنا رأت الصحيفة في نتيجة المقال أن واشنطن باتت تسير مع الواقع الجديد في الشرق الأوسط، بدل أن تكون سيدة الموقف ومهندسة هذا الواقع.
لكن القلق من الوجود الروسي في سوريا، بدا لافتاً فيما تركز الحديث حول التضخيم الذي قام به نتنياهو بعد لقائه بوتين. فقد شكك الجنرال "اسرائيل زيف" في صحيفة يديعوت أحرونوت، بما أشاعه نتنياهو حول النجاح في تشكيل آليةٍ للتنسيق ومنع الإحتكاك مع الجيش الروسي. وقد عزا ذلك لسبب أن هذا التنسيق سيكون بين قوة عظمى والكيان الإسرائيلي الذي وإن كان قوة إقليمية فهو ليس بوزن روسيا. مما يعني بحسب رأيه أن موسكو في الغالب هي مَن سيُملي شروطه في هذا التنسيق وهو ما سيُقيِّد تل أبيب بالنتيجة. في حين أشار البروفيسور "إيال زيسر" في صحيفة "إسرائيل اليوم"، إلى أن المخاوف الإسرائيلية تذهب للقلق من العواقب السياسية للوجود الروسي. ويضيف زيسر بأن (إسرائيل) تتوقع أن تفشل المبادرة الأمريكية الرامية إلى الحفاظ على الدور الأمريكي المركزي في المنطقة، وبديهي أن هذا يزيد في الإحساس بضعفها، وهو الأمر الذي يسمح لروسيا بالتحول إلى لاعب مركزيٍ يستطيع الربط بين الأطراف. وهو الدور الذي فشلت واشنطن في لعبه، والتي بنظره لم تُنجز شيئاً رغم وحدانية القطب العالمي.
ثانياً: لماذا يقلق الكيان الإسرائيلي؟
لقد قام الكيان الإسرائيلي ببناء موازينه الإستراتيجية لتحقيق هدفين أساسيين مرتبطين. الأول هو محاولة تأمين إستمرارية كيانه، والثاني بناء معادلات الردع التي تخدم الهدف الأول. لكن التغيرات القديمة في الصراع وذات الأثر القديم الجديد على المنطقة، جعل قدرة تل أبيب في فرض شروطها تتراجع. وهو ما ضعُف أكثر مع تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة. لكن اليوم أصبحت تل أبيب أمام واقعٍ جديد، بحيث أنها لم تعد تحتاج للتعامل مع أزمة الفراغ الذي أحدثه تراجع الدور الأمريكي فقط، بل أصبحت مرغمة على إيجاد آلية للتعامل مع واقعٍ جديدٍ تعتبر مساوئه بالنسبة للكيان كبيرة. لا سيما في ظل وجود لاعبين أقوياء على الساحة الإقليمية والدولية، كروسيا وإيران، الى جانب حزب الله الذي أصبح قوةً إقليمية.
فقد اعتادت تل أبيب أن تكون الطرف المُدلل في المنطقة، في ظل إحتضانٍ أمريكي وتفاهمٍ مع الحلفاء العرب لا سيما الخليجيين. وهو ما ساهم في بناء واقعٍ يتناسب مع استمرارية الكيان والأنظمة المحيطة، فيما ظلت واشنطن المستفيد الأكبر. أما اليوم فبعد أن تغيرت المعادلات في الميدان السوري الذي راهن عليه الجميع، وكان الساحة التي تُحدد معالم المستقبل، فقد أصبح الرهان من الماضي اليوم، لتقرأ تل أبيب في الحاضر السوري المرسوم، كارثةً حطت عليها. فكيف يمكن شرح ذلك؟
- بقيت تل أبيب قلقة من ارسال السلاح الروسي الى ايران ومنها الى سوريا وحزب الله. في حين حسمت تل أبيب رؤيتها لتؤكد وصول هذا السلاح الى حزب الله. ولعل الإنجازات التي حققها الحزب في الميدان وانتقاله من عقيدة الدفاع الى عقيدة الهجوم، هو الأمر الذي كان محط دراسة القيادة العسكرية الإسرائيلة. وهو ما دفع الجيش الإسرائيلي لشن أكثر من غاراتٍ على مواكب للحزب، جاءت تحت عنوان التدخل المباشر من تل أبيب لحماية المصلحة الإسرائيلية. فالحديث عن الحضور الإسرائيلي في سوريا، أمرٌ بات معلوماً. وإن اقتصر هذا الحضور على الدعم المادي واللوجستي الى جانب الإستخباراتي، فقد كانت تل أبيب تتدخل عبر طائراتها عند شعورها بأي خطرٍ يضر بمصالحها. وهو ما يبدو أنها فقدته اليوم في ظل الخطوة الروسية.
- مما يعني عسكرياً أن الكيان الإسرائيلي، فقد قدرته على المناورة الجوية، بسبب الواقع العسكري الجديد. بإختصار، لم تعد قيادة الجيش الإسرائيلي قادرةً على فرض معادلاتٍ ساعة تشاء وكما تشاء. فالتواجد الروسي في سوريا من خلال طائرات حربية، دبابات، سفن، وحدات خاصة وأجهزة دفاع جوية، أفضى لبناء واقعٍ جديد، سيُقلص حتماً من هامش المناورة للجيش الإسرائيلي عموماً وسلاح الجو خصوصاً، في الشمال. وهو ما يُشكل جوهر المشكلة الجديدة. فقد أعلنت أمريكا عن استعدادها للتعاون مع روسيا من أجل القضاء على الإرهاب في سوريا، وهو ما يضر مباشرةً بتل أبيب.
- فالمشكلة الأولى تكمن في أن الحرب الأهلية في سوريا وتمدد الإرهاب، كانت عوامل تخدم الكيان في أهدافه، لا سيما فيما يخص استنزاف محور المقاومة بأطرافه السوري والإيراني الى جانب حزب الله. مما يعني أن الحرب على الإرهاب ستمنع ذلك بحسب الإسرائيليين. أما المشكلة الثانية، فهي أن تراجع هامش المناورة العسكرية الإسرائيلية، سيمنع الكيان من التدخل ساعة يشاء، في حين لا يتوقع الجيش الإسرائيلي، القدرة على الوصول مع موسكو لما هو مشترك كثيراً فيما يخص مصالح الكيان في سوريا، لأن بقاء النظام خطٌ أحمر روسي.
لقد أصبحت موازين الردع الإسرائيلية من الماضي، لكن قوة تل أبيب ما زالت موجودة. إلا أنها لم تعد قادرة على فرض الشروط ساعة تشاء. لنصل الى نتيجةٍ مفادها، أن تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة، والذي عززه الإعتراف بالدور الإيراني عبر الإتفاق النووي، الى جانب الخطوة الروسية والتي لحقت بها بكين، أدت لتعزيز الواقع الجديد الذي فرض معادلات جديدة. في حين أصبح الكيان الإسرائيلي محاصراً على أكثر من صعيد.