الوقت- لا بد أن الحكم على أيٍ من المسائل يحتاج للدليل والبرهان وليس الإكتفاء بالتحليل دون إعطاء الدلائل. لكن المراجعة التاريخية أو مقاربة الأحداث الحاصلة بالمنطق، يمكن أن تخلص الى نتائج منطقية تحاكي الواقع وتجيب على التساؤلات الضمنية، وإن كانت تستند على معلوماتٍ تحليلية وليست معطيات. ولأننا نحاكي قضية كارثة منى، وبعيداً عن إدخالها في زواريب السياسة الضيقة، سنحاول عرض الأحداث مع الإضاءة على بعض المسائل التي نجدها مرتبطة، في محاولةٍ لقراءة الحدث الخطير بطريقة مغايرة. فكيفية قراءة الحدث تُعتبر بداية الخطوات نحو تحليل الأحداث والتحقق منها. لذلك سنقدم هذه القراءة، وما عليك أيها القارئ العزيز إلا أن تستنتج.
عودةٌ للماضي حيث الإهمال والتقصير سمة الأحداث الحاصلة:
بالعودة الى تاريخ مواسم الحج، فإن كل الكوارث والأحداث التي حصلت، يمكن القول وبشفافيةٍ تتعالى عن الحكم، وموضوعيةٍ لا تحتاج للإثبات، بأن الطرف المسؤول عن إدارة موسم الحج، هو الذي يتحمل مسؤولية وقوعها. وهنا لا نقول إن القيادة السعودية تتحمل المسؤولية لمجرد أن سلطاتها تُدير المكان والزمان فقط، بل لأن الأمور التي حصلت تتعدى في وصفها مسألة القضاء والقدر لتكون أحداثاً تتصف بالتقصير والإهمال. وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته بمجرد النظر الى الحوادث الماضية، ومن ثم الإطلاع على تبريرات السلطات الرسمية السعودية. فعلى سبيل المثال لا الحصر إذ أن الأمثلة كثيرة، فإن ما حصل عام 1990 وراح ضحيته 1426 حاجاً في نفقٍ قالت السلطات السعودية آنذاك إن سبب الحادث يعود لتعطل نظام التهوية في أحد الأنفاق المخصصة للحجاج. فهل يمكن لعاقلٍ أن يقنع بهذا السبب في دولةٍ نعرف أن فيها شوارع مبرَّدة من حر الصيف؟ أم أن الكلام المنطقي الذي كان يجب أن يُقال حينها، هو أن السلطات السعودية تُبرر فشلها وسوء إدارتها لمناسبةٍ تستضيف فيها الملايين. ألم يكن يجب حينها أن نقف عند قلة مسؤولية حكام الرياض وننظر للمسألة من زاويةٍ أعمق؟
لكن ما حصل قد حصل وتعالوا لنحاكي الحاضر، مع ربطه بالماضي. فما جرى اليوم أخطر.
ما جرى اليوم أخطر:
في مقاربة الأسباب التي قد تبرر خنوع الدول فيما يخص أحداث الماضي، يجب القول وبصراحةٍ يحتاجها حدث اليوم، إن الدول ونقصد العربية منها، لم تكن في حينها بمستوى الوقوف عند هكذا حدث، إذ أن أغلب الدول وقتها كانت بمستوى دولٍ تابعة. وهنا نقول ما يجب أن يقال من باب تقييم الأمور وقراءتها على حقيقتها لعلنا نستفيد من تجارب الماضي، ونحسن ربطه بالحاضر. فالعديد من الأنظمة (والتاريخ موجودٌ للمراجعة)، كان يحتاج لرضا السيد الخليجي، ولم تكن أصلاً قضايا الأمة الإسلامية وما ينبثق منها، ذات أهميةٍ لأي من الدول أو الأطراف، لتكون قضية وفاة الحجاج أمراً يستحق الضجيج. في حين كانت إيران وحدها كدولةٍ تتمتع بإكتفائها، تقود قضايا المسلمين وتنادي بحقوقهم، لا سيما القضية الفلسطينية، وتلحق بها أطرافٌ خرجت من صلب الثورة الإسلامية، لكنها وبموضوعية لم تكن ذات تأثير كبير على الساحة.
وبعد تلك الحادثة عام 1990 حصلت حوادث أخرى لكنها كانت صغيرة الفاجعة قليلة الأثر، فيما يتوزع ضحاياها على عدد من الدول. وهنا نُشير الى أن حرمة الموت واحدة، لكننا نتحدث عن ردات الفعل وطبيعتها. لذلك كان الجميع وللإسف، يجد في تبريرات آل سعود والتي دائماً كانوا يضعونها في خانة القضاء والقدر، سبباً مقنعاً للأحداث، وجرت الأمور هكذا.
أما اليوم فالأمور مغايرة وما جرى لا يمكن القبول به، ليس فقط لحجم الكارثة التي حصلت، بل لأن ما جرى بعد الكارثة هو أمرٌ أفظع. فما الذي جرى؟
- حصلت حادثة منى وتناقلتها وسائل الإعلام، ليبدأ عدد الضحايا بالتصاعد التدريجي، ليصل اليوم الى ما يزيد عن 1500. وبررت السلطات السعودية كالعادة الموقف: "تدافعٌ أدى للكارثة". في حين نطق بعض المسؤولين السعوديين بما هو أغرب: "عدم التزام الحجاج بالتعليمات هو السبب". إلا أن القنوات العالمية والعربية في أغلبها، عرضت فيلماً لكاميرا مراقبة، يوضح أن السلطات السعودية أغلقت بوابةً صغيرة يقف خلفها آلاف الحجيج، لمرور موكبٍ رسمي، ثم فُتحت البوابة بعد أن كاد الحجاج أن يختنقوا. في حين أن معلوماتٍ أكدت أن بوابة عبور الشخصيات المهمة، أُقفلت عمداً، وتزامن ذلك مع دخول البعثة الإيرانية الى الموكب المشارك في منى!
- حاول العالم الإسلامي بعدها إستيعاب ما جرى، في محاولةٍ لدى الرأي العام المتابع، لإقناع نفسه بأن موسم الحج هذه السنة هو موسمٌ مليءٌ بأحداث القضاء والقدر. منذ وقوع الرافعة التي سقطت جراء الرياح القوية والتي راح ضحيتها عالم الفيزياء الإيراني أحمد حاتمي، الى حادثة الحريق الذي نشب في أحد الفنادق، وصولاً الى حادثة منى والتي راح ضحيتها بحسب السلطات السعودية ما يقارب 800. لكن القضاء والقدر أيضاً كان بحق الإيرانيين أكبر، فهم فقدوا حتى الآن 133 حاجاً هم في عداد الضحايا، فيما يبقى 266 إيرانياً هم في عداد المفقودين.
النتيجة الموضوعية:
إذا كان القضاء والقدر هو السبب، فماذا يمكن القول عن المفقودين. ولو سلمنا جدلاً أن ما حصل كان لأسبابٍ طبيعية، وقمنا بإقناع عقولنا بما هو غير منطقي، وآمنا بأن الرياح القوية والتدافع، كان السبب في الكارثتين، فكيف يمكن تبرير فقدان عددٍ من الحجاج الإيرانيين، والذين من بينهم أسماء بارزة؟
إن المسار الذي عودتنا عليه السعودية، وتحديداً في تعاطيها مع الشعوب، يجعلنا نسأل العديد من الأسئلة. في الماضي البعيد، ألم تقم السلطات السعودية في 31 آب من العام 1987 بمجزرةٍ ضد المشاركين في مسيرة البراءة من المشركين بعد رمي الجمرات الثلاث، وكانت المسيرة سلمية وتركزت فيها الهتافات ضد أمريكا والكيان الإسرائيلي، وأطلقت النار بوحشية على المشاركين فاستشهد بحسب المصادر الرسمية 402 من المشاركين بالمسيرة، كان منهم 275 من الحجاج الإيرانيين؟ أما اليوم، ألا يتماشى ما جرى من أحداث مع العقيدة الوهابية التي تنادي بمنع مظاهر المناسبات الإسلامية وهدم الكعبة، في حين يعرف العالم أجمع أن هذه العقيدة سعودية الصنع وهي التي ولدت تنظيم داعش الإرهابي اليوم؟ ولماذا دائماً يكون للسعودية دورٌ في نقل صورةٍ سيئة عن المسلمين، وهو ما يجاري الصهيونية في أهدافها؟
لقد أثبتت السعودية منذ زمنٍ بعيد، عدم أهليتها لقيادة العالم الإسلامي. فعلى الصعيد الديني يعرف الجميع كيفية ممارسة حكام السعودية لإسلامهم الوهابي، وقيامهم بتصدير التكفير الى أفغانستان ثم الى قلب العالم الإسلامي. أما على الصعيد السياسي فلم تكن السعودية أهلاً لقيادة مصالح الشعوب الإسلامية. فالسعودية لم تحمل يوماً هم القضية التي توحد المسلمين وهي القضية الفلسطينية. بل لم تقدم يوماً مالاً دعماً للمقاومات العربية، في حين أنها أغدقت المال لإسقاط الأنظمة وتمويل الإرهاب. فيما يبقى الحدث المؤلم بحق اليمن، وقيادة السعودية لحربٍ ضد جارتها، تستخدم فيها وسائل الكيان الإسرائيلي وأسلوبه العسكري، الحدث الذي يُرسِّخ حقيقة أن هذه العائلة الحاكمة لا صلة لها بالإسلام والمسلمين. لنصل الى نتيجةٍ مفادها، أن القضاء والقدر هو في البلاء الذي يقع على المسلمين جميعاً، في أن أطهر أرضٍ أي مكة، موجودةٌ في دولةٍ شعبها شريف، أما حكامها فلا صلة لهم بالدين. لنقول إن الأحداث التي جرت، لا يمكن استغرابها، في محضر دولةٍ تحكمها عائلة تجتمع في أيديلوجيتها الوهابية، مع الأيديلوجية الصهيونية. فكيف نطالب آل سعود بما لا يفقهون به؟ وإلا متى سنبقى ننتظر أوساخ السياسة لتسمح لنا بالإنتفاض على من يذبح المسلمين منذ زمنٍ بعيد؟ وإذا كنا نُريد الإيمان بقاعدة القضاء والقدر السعودي، فلماذا لا نقوم بما يجب علينا القيام به، على طريقة القضاء والقدر السعودي؟
إن الذين سقطوا من ضحايا في موسم الحج هذا العام، استشهدوا بعد أن تطهروا من ذنوبهم وعادوا كما ولدتهم أمهاتهم بعد أعمال عرفة. لنقول إن الجريمة أعظم من أن توصف، فيما العزاء للعالم الإسلامي أجمع. بينما يبقى المفقودون ألماً نتمنى أن لا يكون مصيره كالدبلوماسيين الأربعة الذين فُقدوا في لبنان... لذلك فما حصل في السعودية لم يكن صدفة..!!؟؟