الوقت- بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، امتدح زعماء الكتلة الغربية مرارًا وتكرارًا ما أسموه بإنجازهم، ووصفوه بأنه انتصار للقيم الإنسانية على الحكومات اللاإنسانية. لكن تدريجياً، أصبحت كراهية دول العالم لهم تجعل من استمرار بقاء العمود الفقري للكتلة الغربية أي حلف الناتو موضع شك.
لا أمريكا مستعدة للدفع لإبقاء الناتو على قيد الحياة، ولا لفرنسا فائدة تصب في مصلحته الخاصة. وترجح ألمانيا التعاون مع موسكو عوضاً عن الاهتمام بالمخاوف بشأن النفوذ الروسي، وستشتري بريطانيا الجيل الجديد من البنية التحتية لاتصالاتها من شركة هواوي الصينية، وستقوم تركيا بشراء أنظمتها الدفاعية من روسيا.
لقد أبقوا جثة الناتو حية على السرير تحت أجهزة الانعاش، حيث أنهم يحضروها أحياناً لحضور الاجتماعات امام الكاميرات الإعلامية للقول ان تشخيص موت الدماغ كان خطأ. ويلوحون أيضاً خلال اجتماعاتهم بتهديدات جديدة عسى ان تعود إشارات الحياة الحيوية الى الناتو من مبدأ قوة غريزة البقاء. فعلى سبيل المثال، تحدثوا في هذا الاجتماع عن الحاجة إلى توسيع الوجود العسكري لحلف الناتو في الفضاء، وأن الصين يمكن أن تشكل تهديدًا خطيرًا إلى جانب روسيا. لكن كل هذا الصراخ والصفعات المتكررة لا يمكن أن تعيد للناتو وعيه.
فرنسا ومبادىء حلف الناتو
إن حلف الناتو، حتى لو كان فاتحًا، أصبح الآن فاتحًا حقيرًا، لا أحد فيه مستعد لتحمل مسؤولية أخطاء الرئيس, الرئيس الذي نشر قواته العسكرية علناً أينما أراد وقام ببناء القواعد وتطبيق الضغط الاقتصادي والنفسي وارادته السياسية كيفما أراد على عكس القيم التي أعلن عنها في الحرب الباردة.
اتهم الرئيس الفرنسي، الذي عارضت بلاده بشدة دخول الناتو في حرب العراق عام 2003، أمريكا علانية بانتهاك مبادئ الناتو الأساسية قائلاً: "إذا كنا نريد أن ننفق أموالنا ونخاطر بحياة جنودنا في مسارح تسمى العمليات العسكرية ، يجب علينا التحدث بوضوح عن مبادئ الناتو مرة اخرى ". وهذه كانت تصريحات ماكرون قبل بداية الذكرى السبعين لتأسيس حلف الناتو.
ما قصده بـ "إنفاق أموالنا" كان دعوات ترامب المتكررة إلى زيادة حصة الدول الأعضاء، حتى إن البعض منهم لم ينفق ما يصل إلى اثنين بالمائة من ميزانيته على الأمور العسكرية " ليس من الصحيح ان يضمن البعض كل مكاسبهم في حلف الناتو وفي (التجارة مع أمريكا). هذا هو الوضع الراهن ولن نسمح باستمراره ".
ان تصريحات ترامب هي "الحديث بوضوح" الذي أراده ماكرون. يقول ترامب صراحة إن حلف الناتو لا يتعلق بالمبادئ الإنسانية، وإنما هو صفقة أبرمتها أوروبا مع أمريكا. وبموجب هذه الاتفاقية، تضمن أمريكا أمن أوروبا وفي المقابل تخدم أوروبا المصالح السياسية والاقتصادية الأمريكية في العالم. ولكن يتساءل ماكرون كممثل لجيل جديد من السياسيين الأوروبيين، أنه إذا كانت مبادئ الناتو الأساسية تخدم مصالح أمريكا ، فلماذا لا تخدم روسيا أو الصين؟ هذا أولاً أما ثانياً، لماذا يجب على أوروبا أن تشارك في الاحتفال الكبير لذبح القيم الغربية؟ ولكن ما هي مخاطر ترك الناتو أو تشكيل تحالف عسكري جديد؟ ما المخاطرة في أن تبق أوروبا راضية عن تشويه سمعة الغرب في الرأي العام؟
تركيا والإرهاب
صرحت فرنسا في بيانها الختامي ان اجراءات روسيا، إلى جانب جميع أشكال الإرهاب، من أهم التهديدات وأيدت التوقيع على اتفاق لحماية دول البلطيق من أي عدوان روسي. لكن تركيا، والتي يبدو أنها حريصة على الحفاظ على الدعم الروسي لأنقرة، رفضت التوقيع على الاتفاقية وقدمت شرطاً غير منطقياً: أولاً، يجب أن يعتبر حلف الناتو القوات الكردية شمال سورية والمعروفة باسم (YPG)، كجماعة إرهابية.
لم يكن من الواضح ما هي الامتيازات التي أغروا بها أردوغان في النهاية ليوافق على توقيع الاتفاقية الجديدة، لكن أظهر الاتفاق أنه بقدر ما تصر أمريكا على متابعة مصالحها الوطنية في حلف الناتو، فإن الدول الأعضاء الأخرى قد تفعل ذلك أيضاً، وفي تلك الحالة يصبح هدف الناتو هو تحقيق المصالح المتفرقة بدلاً من الأمن الجماعي.
ولقد وصل الأمر إلى درجة أن أمريكا هددت أيضًا الدول التي لم تدفع بعد نسبة 2٪ من ميزانيتها بناءً على نفس المنطق، منطق المصالح المشتتة. ترامب، الذي قيل إن ترودو روى طرفة عنه في عشاء قصر باكنجهام ، وصف رئيس الوزراء الكندي بأنه "بوجهين" وهدد بتقويض المصالح التجارية "للحكومات المقصرة" إذا ما استمروا في سلوكهم. ثم ألغى المؤتمر الصحفي وعاد إلى واشنطن في وقت أبكر لطمأنة الجميع بأن تهديده لم يكن مزدوجًا.
زاد الإنفاق العسكري للدول الأعضاء بنسبة 4.6 ٪ في العام 2019 في حين أن 9 دول فقط كانت على استعداد لدفع حصتها ال 2 ٪.
الملخص
على عكس رؤساء أمريكا الآخرين، ليس لدى ترامب أي تردد في إظهار الخلافات بين أعضاء الناتو ، مما يعني أنه لا يهتم بالناتو كثيرًا. وهذه هي الرصاصة الأخيرة المتبقية في جعبة واشنطن، فهي كالسيف ذي الحدين، إذا فشلت في تحسين الناتو، فستكون هذه بمثابة ضربة قاتلة ليس لها فقط ولكن لعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأزليين أيضاً.
يعتقد "ليزلي وينجاموري، أحد خبراء تشاتام هاوس، أن الناتو فشل في الاتفاق على هدفه الرئيس الجديد ونهجه منذ انهيار الكتلة الشرقية. وفي رأيه، فإن منظمة حلف شمال الأطلسي لا تتواكب مع العصر الحالي، وإذا فشلت بمواكبته، فإنها على وشك الانهيار. يقول المحلل الأوروبي "كاكينوجيني" في DuckerFrontier والذي يتبنى نفس الموقف أيضًا: "يحتاج الناتو إلى تحسين فعلي، في تطوير الشراكات، وتحديد الأهداف، وفي المشاركة المالية بطريقة تقلل من دور أمريكا بشكل عام".
لكن هذه المهمة من الطراز السهل الممتنع. أولاً، علاج الناتو (إذا كان هناك علاج له) هو إضعاف قوة أمريكا مع تقليل دور أمريكا, أي إضعاف حلف الناتو في مواجهة المنافسين الذين يتطورون بسرعة في التنمية الاقتصادية والعسكرية. ثانيا ، لا تدعم واشنطن ، بصفتها قائد الناتو، مثل هذه الإصلاحات الأساسية. حيث ان أمريكا تريد من الدول الأعضاء دفع المزيد، بالإضافة الى ان تظل مطيعة كما كانت من قبل. فأي من أهداف حلف شمال الأطلسي المنفذة كانت منفصلة عن السياسة الأمريكية حتى الآن؟.