الوقت - في الأيام الأخيرة، أثار إصدار فيلم وثائقي من قبل قناة "الحرة" بعنوان "الفساد الديني في العراق"، والذي استهدف شخصيات دينية شيعية وسنية في العراق على وجه التحديد، موجةً من ردود الفعل من قبل شخصيات وأحزاب عراقية وحتى الحكومة.
وفي الواقع، نشرت قناة الحرة في 31 أغسطس 2019 تقريراً مدّته خمس دقائق عن الفساد، وذكر أنه يحقق في فساد المؤسسات الدينية في العراق.
يتناول التقرير المشاريع التجارية للعتبات الشيعية المقدسة في كربلاء والنجف، ويثير تساؤلات حول هذا الموضوع.
حيث تنفّذ العتبات المقدسة عدداً كبيراً من المشاريع الاستثمارية في مجالات السياحة والصحة والتعليم والزراعة، والتي يعمل فيها الآلاف من الموظفين، ويديرها ممثل آية الله "السيد علي السيستاني" المرجع الشيعي الأعلى.
كما يتطرق التقرير إلى مشاريع الوقف السني الاستثمارية برئاسة "عبد اللطيف الهميم".
وعلى الرغم من أنه بعد عدم الرضا الواسع النطاق على مختلف المستويات، قالت وكالة الإعلام والاتصالات العراقية إنها ستعلّق مكتب قناة "الحرة" لمدة ثلاثة أشهر، لكن القضية الآن هي أن هذه القناة التلفزيونية التي يعود ارتباطها المالي لأمريكا وهو أمر مسلّم به، لكن ما هي الأهداف التي تريد تحقيقها من خلال نشر مثل هذا الفيلم الوثائقي المسيء والمليء بالأكاذيب.
لمتابعة هذه القضية، من المؤكد أنه يجب الانتباه إلى مستوى أكبر بكثير من ظاهر القضية، وهو "الاستراتيجية الثقافية الأمريكية للنفوذ في العراق".
وبناءً على ذلك، تحلل الدراسة الحالية أبعاد وأهداف النفوذ الثقافي الأمريكي في العراق.
1- تركيز أمريكا على النفوذ الإعلامي
المستوى الأكثر أهميةً للنفوذ الثقافي الأمريكي في العراق، والذي يُظهر بوضوح الدور الأمريكي الخفي في تشويه المرجعية وغيرها من المؤسسات الدينية، في تركيز واشنطن على إنشاء وسائل إعلام عميلة، وفي هذا الصدد، وفي دراسة أجراها معهد "التبيين" للدراسات الاستراتيجية في مايو 2018، أي قبل عام ونصف العام، يتم الإشارة بوضوح إلى رعاية الحكومة الأمريكية لقناة "الحرة".
يقول معهد "التبيين" في هذا الصدد: إن الجهود الإعلامية لأمريكا لها أبعاد واسعة، لكن واحدة من أبرز المؤسسات الأمريكية هي BBG) Broadcasting Board of Governors). قد صرّحت أن مهمتها هي زيادة الوعي والمشاركة والتفاعل مع شعوب العالم ودعم الديمقراطية والحرية.
إحدى الشركات التابعة لـ BBG في منطقة غرب آسيا، هي MBN ) Middle East Broadcasting Networks) والتي تغطي قناة "الحرة" وراديو "سوا".
يتم تمويل هذه الشبكات التي تتحدث باللغة العربية من قبل الكونغرس الأمريكي بالتحديد، ويعدّ العراق على وجه الخصوص، أحد البلدان المستهدفة من قبلها.
على سبيل المثال، غطّت قناة الحرة أنباءً عن خمس نساء شجاعات في العالم، حددتهن وزارة الخارجية الأمريكية؛ ونجد في هذا الخبر امرأةً عراقيةً تدعى "أم قصي" التي آوت 15 طالباً عراقياً في منزلها هرباً من داعش، ولهذا حصلت على جائزة من سيدة أمريكا الأولى "ميلانيا ترامب".
تعتبر محاولة أمريكا لتصوير حكومةٍ تحارب الجماعات الإرهابية، وتدعم طالبي اللجوء ومختلف الجماعات العرقية الدينية، إحدى الطرق التي تنتهجها هذه القنوات في العراق بشكل خاص.
ويشير هذا التقرير التحليلي بوضوح إلى أن إنتاج برنامج حول الفساد في المؤسسات الدينية، ليس برنامجاً مستقلاً بأي حال من الأحوال، ويتماشى بشكل أكثر مع الخطة الأوسع أي "علمنة" العراق ودفع توجّهات الناس نحو الثقافة المادية والغربية، مع ذلك، في هذا البعد أي إرساء الثقافة العلمانية، يركز الاستراتيجيون الأمريكيون على المؤسسات التعليمية والثقافية أكثر من وسائل الإعلام.
2- خطة أمريكا للنفوذ الثقافي في المؤسسات التعليمية والأكاديمية
مما لا شك فيه، أن البعد الأكثر أهميةً الذي ركّز عليه الأمريكيون في العراق ثقافياً، كان دور ووظيفة المؤسسات الثقافية والجامعات التابعة لها.
في الواقع، ينظر الأمريكيون إلى الجامعات والمؤسسات الثقافية باعتبارها القوة الدافعة للمضي قدماً بسياساتهم ومواقفهم في العراق.
وفقاً للأمريكيين، يجب أن يصبح التعليم العالي في العراق جزءاً لا غنى عنه من جهود العراق لإضفاء الطابع الديمقراطي على النظام السياسي وتحديث المجتمع.
ومن وجهة نظرهم، يمكن للجامعات العراقية أن تساهم في حلحلة المشكلات الاجتماعية والتوترات السياسية في البلاد، فضلاً عن توفير الفرص للجامعات والطلاب لكي يظهروا كعوامل للتغيير المجتمعي.
وفي جهودهم الدعائية ما بعد عام 2003، أكدوا أنه على الرغم من الحرب والقوانين الاستبدادية، تلعب الجامعة والمؤسسات التعليمية الثقافية دوراً رائداً في ضمان سلام دائم في العراق.
منذ بداية الاحتلال الأمريكي للعراق، كان قطاع التعليم أهم مجال في المجتمع العراقي ككل، عانى من مشكلات في الميزانية والتنظيم.
وفي الواقع، بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، قُدّر أن الحكومة العراقية بحاجة ماسة إلى ما لا يقل عن 1.2 مليار دولار في مجال التعليم، لكن هذا المبلغ لم يكن متاحاً، حتى أن مؤتمر المانحين لإعادة إعمار العراق، الذي عقد في مدريد في أكتوبر 2003، لم يخصص أي تمويل للقطاعين الجامعي والتعليمي.
أيضاً، في ربيع عام 2004، عندما خصص الكونغرس الأمريكي 87 مليار دولار لإعادة إعمار العراق، طلبت سلطة الائتلاف المؤقتة (CPA) 120 مليون دولار لقطاع الجامعة، لكنها لم تتلق سوى 8 ملايين دولار.
وفي السنة الدراسية 2004-2005، بلغت التكلفة الإجمالية للتعليم العالي 225 مليون دولار فقط، خصص 65 في المئة منها للرواتب والأجور.
مع ذلك، في السنوات الأولى لاحتلال العراق، عندما كانت الصورة الشاملة للاقتصاد ضعيفةً، بذلت جهود دولية واضحة وخاصةً من قبل أمريكا، لدعم القطاع الجامعي في العراق.
وفي هذا الصدد، ذكرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في عام 2003، أن تكلفة الشراكة بين المؤسسات الأمريكية والعراقية تبلغ 22 مليون دولار.
وقد شملت المؤسسات الأمريكية جامعة نيويورك في ستوني بروك، جامعة هاواي، جامعة دي بول، جامعة جاكسون الولائية وجامعة أوكلاهوما.
وكان برنامج فولبرايت للمنح الدراسية (الباحث المتميز) مخصصاً لـ 36 طالباً عراقياً للدراسة في أمريكا لعام 2004، و35 طالباً لعام 2005.
على مستوى آخر، نفّذت وزارة الخارجية الأمريكية برامج لإنشاء مكتبات افتراضية على مدار عامين، والمكتبة التي تم تدشينها في عام 2006، أتاحت الوصول إلى عدد كبير من الكتب بلغ أكثر من ألف منشور على الإنترنت، للأقسام الأكاديمية العراقية والمهندسين وطلاب الجامعات ومركز أبحاث وجميع وزارات الحكومة العراقية.
3- التخطيط لترويج العلمانية وإضفاء الطابع المؤسسي عليها
بالإضافة إلى ما تقدّم، فإن الجوانب الأخرى التي ركّزت عليها أمريكا في الشؤون الثقافية، هي جهودها المبذولة لإرساء الثقافة الأمريكية القائمة على العلمانية في العراق.
منذ بداية سقوط النظام البعثي، كان "معهد السلام الأمريكي" نشطًا في دعم قطاع التعليم الأكاديمي العراقي، ففي عام 2003، قام المعهد بعدد من الأعمال لتخفيف التوترات الدينية والعرقية وتعزيز الاستقرار والديمقراطية، وتبرير الحاجة إلى الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
وكان منهج المعهد التعليمي يؤكد على تطوير المناهج الدراسية وتعليم المعلمين لمعالجة التوترات والسلام وحقوق الإنسان والديمقراطية.
كما ساعد المعهد في إنشاء مركز حقوق الإنسان وحلّ النزاعات من خلال التركيز على القطاع الأكاديمي والمجتمعي.
من ناحية أخرى، كان تعزيز معرفة أساتذة الجامعات في حل النزاعات وحقوق الإنسان وغيرها من الأساليب المتعلقة بالسلام، عملاً آخر من أعمال المعهد.
كذلك، رعى المعهد ترجمة العديد من النصوص والبرامج الدراسية حول حقوق الإنسان وحل النزاعات.
وفي بعد آخر، نظّم معهد السلام مؤتمراً حول المهمة المدنية للجامعات العراقية في مارس 2005، وحضر المؤتمر ثلاثون أكاديمياً من مختلف الجامعات، ووضعوا خطةً لزيادة مشاركة جامعاتهم في هذا المجال.
وعقد المعهد 13 مؤتمراً تعليمياً عاماً في 12 جامعة في سبتمبر 2005. وكان الغرض من هذه المؤتمرات إيضاح أحكام الهيكل الجديد للاستفتاء العام.
كما ألقى رؤساء الجامعات وأعضاء هيئة التدريس محاضرات حول القضايا الهيكلية، مثل الفيدرالية ودور الدين في الحكومة وحقوق المرأة والهوية العراقية والقانون الاقتصادي.
كذلك، أثار معهد السلام موضوعاً مقالياً لطلاب المدارس الثانوية في العراق، بعنوان "ماذا أريد من مستقبل العراق؟"، حيث كتب ألف طالب من ثمانية آلاف مدرسة عراقية مقالات حول الموضوع، وحصل الفائزون على جوائز في احتفال أقيم في جامعة بغداد بحضور آبائهم عام 2006.
إن عقد مثل هذه المؤتمرات وعرض هذه الموضوعات، يدلان على أن الأمريكيين قد ركّزوا بشكل خاص على القضايا الثقافية منذ احتلال العراق في عام 2003، وسعوا إلى تعزيز وتعليم العلمانية والهوية الغربية بكل طريقة ممكنة.
4- تركيز أمريكا على قبول وتعليم الطلاب العراقيين
هنالك جانب آخر للعلاقات الثقافية بين أمريكا والعراق يمكن اعتباره مهماً، وهو مستوى قبول الطلاب العراقيين في أمريكا.
في الواقع، تستخدم واشنطن الطلاب العراقيين كأداة لتثقيف النخب المستقبلية التي تربَّت على الثقافة الأمريكية والغربية. بمعنى أنه كلما زاد عدد الطلاب العراقيين في أمريكا، كلما كان حضور النخبة العلمانية والليبرالية في العراق أكثر، الأمر الذي قد يوفر في النهاية الأساس للحفاظ على العلاقات الأمريكية العراقية.
ورغم أنه لا يمكن تقييم هذا الأمر بشكل قطعي، ولكن لا يمكن تجاهل أن الطلاب والنخب العراقية الموجودين في أمريكا، يمكن أن يظهروا كمتلقين للثقافة الليبرالية للديمقراطية الغربية.
وبالنظر إلى ما تقدّم، في السنوات التي تلت عام 2014، وبعد صعود داعش في العراق، نشهد اتجاهاً متزايداً في وجود الطلاب العراقيين في أمريكا، ويمكن الاطلاع على تفاصيل ذلك في الرسوم البيانية التالية.
في عام 2008، اتفق العراق وأمريكا على اتفاقية شراكة استراتيجية، تتضمن أهداف تعزيز التبادلات الثقافية والتعاون في التعليم العالي والبحث العلمي.
ومنذ ذلك الحين، زاد عدد الطلاب العراقيين الذين يدرسون في أمريكا بنسبة 429 في المئة، حيث وصل العدد من 359 طالبًا في 2008/2009 إلى 1901 طالب في العام الدراسي 2015/2016( IIE ، Open Doors). ومعظم هؤلاء الطلاب (حوالي 77٪) من طلاب الدراسات العليا، 14٪ في مرحلة البكالوريوس، و9 ٪ في برامج غير درجة البكالوريوس وOPT.
وبحسب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية، فإن الأغلبية الساحقة من طلاب الدراسات العليا العراقيين في أمريكا (حوالي 79 ٪)، يسجلون في مرحلة الدكتوراة.
العنوان |
2013-2014 |
2014-2015 |
النسبة المئوية للتغيير |
عدد الطلاب العراقيين في أمريكا |
1491 |
1727 |
15.8% |
عدد الطلاب الدوليين في أمريكا |
819644 |
974926 |
10% |
عدد الطلاب العراقيين الذين يدرسون في أمريكا
في الجدول أعلاه، ارتفع عدد الطلاب العراقيين منذ 2013 إلى 2015 بشكل ملحوظ، مقارنةً بعدد الطلاب الدوليين. ويشير معدل الزيادة في عدد الطلاب العراقيين مقارنةً بالطلاب الدوليين في أمريكا، إلا أن واشنطن قد فتحت أبواب جامعاتها للطلاب العراقيين في السنوات الأخيرة، وهي تسعى جاهدةً لتعزيز وتحسين العملية بكل طريقة ممكنة.
المنهج الدراسي |
2013-2014 |
2014-2015 |
النسبة المئوية للتغييرات |
البكالوريوس |
212 |
240 |
13.2% |
الماجستير |
941 |
1176 |
25% |
دون شهادة |
302 |
263 |
-12.9% |
التعليم العملي الاختياري |
36 |
48 |
33.3% |
عدد الطلاب المتخلفين عن المناهج الدراسية
يوضح الجدول أعلاه عدد الطلاب الذين تخلفوا عن الدراسة، حيث ترك العديد من الطلاب مقاعد الدراسة.
الرسم البياني لعملية نمو عدد الطلاب العراقيين في أمريكا.
يوضح الرسم البياني أعلاه النمو الهائل للطلاب العراقيين الذين يدخلون أمريكا.
في السنوات التي سبقت سقوط صدام، كان هذا الرقم منخفضاً جداً، وبعد سقوط صدام زاد عدد هؤلاء الطلاب كل عام، بحيث زاد هذا النمو في السنوات التي تلت عام 2010 حتى وصل إلى 1727 طالباً في عام 2015.
كما يبين هذا الرسم البياني كيف نمت جهود أمريكا في اتجاه متزايد، لإقامة علاقات أمريكية عراقية مشتركة في مجالي التعليم والتبادل الثقافي.