الوقت- تخيّم الضبابيّة على المشهد السوداني بعد انتصار الثورة والانقلاب على حدّ سواء، الحراك الذي نجح في إسقاط البشير بعد 30 عاماً من التسلّط على البلد، ترافق مع انقلاب عسكري، بدأ بشعار انحياز الجيش إلى الشعب، وما لبث أن تحوّل إلى مجلس عسكري انتقالي يلغي الدستور ويقيل الجميع، ويعلن الأحكام العرفيّة، ويتحكّم بمصير البلاد والعباد لمدّة عامين.
الرفض الشعبي لخطوة الانقلاب على الثورة بدا واضحاً، وهذا ما تلمّسه المجلس العسكري الانتقالي الذي أعلن رئيسه عوض بن عوف تنحّيه من منصبه واختيار المفتش العام للجيش عبد الفتاح عبد الرحمن خلفاً له.
بعيداً عن أهداف الخطوة التي قام بها الفريق أول بن عوف، الرجل الذي صعد مع صعود البشير ومطلوب للعدل الدوليّة بأحداث دارفور، والتي فسرها البعض بقناعة الرجل بأفول المجلس العسكري واحتراق أوراقه ومحاولته الانسحاب السريع والظهور على هيئة العسكري الذي وقف إلى جانب الشعب في أصعب الظروف، يبدو أن الفوضى ستكون عنوان المرحلة الحاليّة في ظل إصرار المجلس العسكري على حكم البلاد.
لا يبدو أن هناك توجّهاً شعبياً للانسحاب من الشارع فقد قال "تجمع المهنيين السودانيين": إن "مطالبنا واضحة وعادلة ومشروعة، إلا أن الانقلابيين (لجنة النظام الأمنية) بطبيعتهم القديمة الجديدة ليسوا أهلاً لصُنع التغيير.. لقد دفع شهداؤنا دماءهم مهراً في سبيل الصعود لمرافئ العدالة والحرية والسلام.. فكيف لا يستحي النظام من محاولة قطف ثمار كان بالأمس يحاول إبادة نوارها؟!".
في المقابل هناك من يحاول أن ينهي الثورة عند حدود الرئيس البشير والمضي قدماً بخيار المجلس العسكري، لا المدني، وهناك دعم خارجي لهذا الخيار أكثر منه داخلياً بين أبناء الشعب السوداني، ما يدفعنا للإشارة إلى جملة من النقاط:
أوّلاً: لا شكّ أن الثورة السودانيّة السلميّة قد حقّقت أحد أبرز أهدافها المتمثّلة بإسقاط الرئيس عمر البشير، لكن في الوقت عينه ما حصل من تأسيس مجلس عسكري تقوده جنرالات عهد البشير وفي ظل الشروط التي وضعها بدءاً من إدارة البلاد، ومروراً بتعطيل العمل بالدّستور، وحلّ مُؤسّسة الرئاسة ومجلس الوزراء والولايات ووصولاً إلى إعلان حالة الطّوارئ لمُدّة ثلاثة أشهر، يشير إلى ضياع أهداف الثورة، ومن هنا برز خيار إنقاذ الثورة.
ثانياً: وبالتالي، فإن استمرار الحراك السلمي اليوم يعدّ حاجة ملحّة، مع الالتفات إلى بعض المتربصين في قيادات الجيش والأمن لخلافة البشير.
هنا لا بدّ للمتظاهرين من الالتفات إلى بعض الأحداث التي تتعارض وأهداف ثورتهم كالتعدي على الأموال العامة والخاصّة. فقد قال متحدث باسم الشرطة السودانية إن ما لا يقل عن 16 شخصاً قتلوا وأصيب عشرون آخرون يومي الخميس والجمعة "بأعيرة نارية طائشة في الاعتصامات والتجمهرات".
ثالثاً: لا شكّ أن هناك الكثير من القيادات العسكريّة الوطنيّة في الجيش السوداني، ولكن في الوقت عينه هناك من يريد استغلال قوّته اليوم في مؤسسة الجيش الضمانة الوحيدة للبلاد، لفرض نفسه على الشعب السوداني.
هناك إشارات تؤكد وقوف الرجل الأقوى في الانقلاب مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني "صلاح عبد الله غوش" خلف خطوة المجلس العسكري الذي تمّ التحفظ على بعض أسماء المساهمين فيها.
إن غياب اسم غوش عن المجلس رغم قوّته الداخلية نظراً لموقعه الحساس، والخارجيّة نظراً لعلاقته القويّة مع العديد من الدول واتهامه بالتنسيق مع الاستخبارات الأمريكية والأوروبية في ملف "المجاهدين العرب"، يؤكد وجود قطبة مخفية، فهل سيظهر غوش في التوقيت القاتل، بعد أن يعمد إلى حرق أعضاء المجلس العسكري، وبالتالي تنصيب نفسه وظهوره إلى العلن بعد استقرار الانقلاب؟ هل سيقود "ثورة إنقاذ" ضد حلفائه في العسكري، كما فعل البشير مع حلفائه الإسلاميين؟ هل سيكرّر هذا الرجل مقولة البشير بأنه جاء لإسقاط المسؤولين السابقين وإنقاذ السودان من فسادهم؟
رابعاً: في الإطار نفسه، لا بدّ من الجميع الالتفات إلى أهمية الحفاظ على الجيش وهيكليته، خاصّة أن هناك بعض المؤشرات المخيفة حول حرب جنرالات سياسيّة قد بدأت، فقد قال بن عوف في خطاب استقالته في اليوم الثاني للمجلس العسكري: "أعلن إعفاء الأخ الكريم الفريق أول دكتور ركن كمال عبد المعروف الماحي بشير من منصبه نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي بعد أن أصرّ على ذلك فعجز منطقي عن إقناعه وعجزت قناعتي عن إثنائه وبقائه في الموقع حتى إلى حين"، كما أنّ قائد قوات الدعم السريع "محمد حمدان دقلو حميدتي" قد اعتذر عن الانتماء إلى المجلس العسكري، فهل سيتحوّل هذا الخلاف إلى عسكريّ؟
خامساً: لا رهان على الخارج حيث تبدو بعض الدول تقف منتصف الطريق لتميل نحو الطرف المنتصر، أيّاً كان هذا الطرف. لا بدّ من النظر بعين الشكّ والريبة إلى كل طرف يعمد إلى جلب التدخّل الخارجي أو فرض أجندة الخارج، لاسيّما أن أي طرف يفعل ذلك، سيحصل في المقابل على غطاء أمام أي انتهاكات قد ترتكب في الداخل السوداني، وهذه الانتهاكات ستكون دماء الشعب السوداني من ضمنها، فبالنسبة للكثير من الدول "الغاية تبرّر الوسيلة"، كما أن الحراك كان سلمياً دون أي تدخل خارجي، وهذا سرّ نجاحه، ولا بدّ من الاستمرار فيه كذلك.
لا شكّ أن ما حصل يعدّ إنجازاً نوعياً للشعب السوداني، لكنّهم لا يزالون في منتصف الطريق، بعد استيلاء العسكري على الحكم، بخلاف ما حصل في الجزائر حيث التزمت قيادة الجيش بالدستور، الأمر الذي يؤكد صعوبة التكهن بالتطورات اللاحقة والمستجدات التي تنتظر السودان.