الوقت- مزيد من الأزمات تلقي بظلالها على الشأن التركي، الذي أصبح اليوم في وضع لا يحسد عليه، وذلك نتيجة لفشل حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، في المحافظة على وتيرة النجاحات الداخلية والخارجية، التي حققها الحزب منذ توليه السلطة في العام 2002 م.
فكل شيء يبدو مختلفاً اليوم عما كانت عليه سيرة حزب العدالة والتنمية قبل الأزمة السورية والموقف التركي منها، فمن سياسة "تصفير المشاكل" مع الجيران، إلى العلاقة المتوترة مع كل الجيران تقريباً، ومن النمو الاقتصادي الكبير الذي وضع تركيا في المرتبة 17 من الدول الأقوى اقتصادياً، إلى التراجع في معدلات النمو التي سُجّلت أخيراً، ومن العلاقة التصالحية مع الأكراد، التي أسهمت بقدر كبير برفع شعبية حزب العدالة والتنمية، وإيجاد حالة من اللحمة الوطنية حوله، وتحقيق نوع من الانسجام في الداخل التركي، إلى مرحلة فتح جبهة مع حزب العمال الكردستاني وقصف مواقعهم داخل الأراضي السورية والعراقية، هذا بالإضافة إلى علائم التوتير بين الحكومة والعلويين، والخلافات الداخلية بين رموز حزب العدالة والتنمية الناجمة عن عجز الحزب عن احراز نسبة المقاعد البرلمانية التي تؤهله لتشكيل الحكومة منفرداً، ومشاكل تشكيل الحكومة الائتلافية.
الجديد في التحولات التركية هي الحرب التي أعلنتها الدولة التركية ضد تنظيم داعش الارهابي، وحزب العمال الكردستاني في آن واحد، وهو ما بررته الدولة التركية، بأنه جاء رداً على عملية سوروتج الانتحارية التي نفذها تنظيم داعش الارهابي، واقدام العمال الكردستاني الذي حمّل الدولة التركية مسؤولية دعم داعش، بالانتقام من خلال قتل شرطيين تركيين.
إلا أن الرد التركي المفاجئ والسريع وغير المتدرج، جاء ليطرح عدة أسئلة حول حقيقة الخطوات التركية الأخيرة، والهدف منها، إذ أن تنظيم داعش الارهابي بقي لمدة أربع سنوات يحظى برعاية ودعم السلطات التركية، من خلال تسهيل دخول المتطرفين إلى العراق وسوريا عبر الحدود التركية، وشراء النفط من داعش عبر شبكة من المهربين الأتراك، ورفض تركيا الانضمام إلى التحالف الدولي ضد داعش ما لم تتحقق شروطها الأربعة، كما بدت تركيا مرتاحة إلى الدور الذي كان يلعبه داعش في إضعاف الدولة السورية ومحاربة الأكراد، فما الذي دعا الدولة التركية إلى اعلان الحرب الشاملة ضد داعش وقصف مواقعها في سوريا والقاء القبض على حوالي 500 من الشخصيات المرتبطة بها، سيما وأن الشروط الأربع التي أعلنتها للدخول في الحرب ضد داعش لم تتحقق، والتي تقضي بإقامة منطقة آمنة داخل سوريا، وتطبيق حظر للطيران السوري، وتدريب وتسليح المعارضة المعتدلة، والقيام بعمليات عسكرية ضد الجيش السوري.
ومن ناحية أخرى فإن مساعي المصالحة مع حزب العمال الكردستاني بقيت مستمرة حتى أمد قريب، وتواصلت المفاوضات مع زعيم الحزب عبدالله اوجلان في سجنه، مما أفضى في نهاية المطاف إلى دعوة أوجلان لأتباعه من الانفصاليين الأكراد لإلقاء السلاح، وإنهاء النزاع المسلح مع أنقرة، فما الذي تسبب بهذا التصعيد التركي المفاجئ مع الحزب الكردي؟
إن العلاقة بين تركيا وداعش كانت على الدوام ذات طبيعة تخادمية، ومن الطبيعي أن تزول هذه العلاقة بانتهاء المصالح بين الطرفين، خاصة وأن تركيا لم تكن تدعم داعش من منطلق التحالف الايدولوجى، ولم تكن لتقبل بدولة اسلامية متطرفة على حدودها الجنوبية ترفع شعار "باقية وتتمدد"، بل كان الهدف الأساس هو استخدام ورقة الارهاب لإضعاف جيرانها، وتعزيز نفوذها في المنطقة، على حسابهم، بما يحقق طموحات اردوغان في إحياء الامبراطورية العثمانية. ومن ناحية أخرى لم يكن تنظيم داعش الارهابي بغافل عن النوايا التركية، وكان يتأهب للمعركة المقبلة مع تركيا متى استدعى الأمر، ويحشد لذلك ما لديه من أوراق القوة.
ويمكن القول بأن العلامة الفارقة في التحول التركي المفاجئ تجاه تنظيم داعش الارهابي، كانت دخول وحدات حماية الشعب الكردية إلى مدينة تل أبيض السورية تحت غطاء جوي وفرته قوات التحالف الأمريكي، والاتهامات التركية لهذه الوحدات بتهجير العرب والتركمان من أجل تغيير البنية الديموغرافية للمدينة، تمهيداً لضمها لمناطق الحكم الذاتي الكردية، بما يؤسس لتشكيل دولة كردية في الشمال السوري، وهو الأمر الذي يعتبر لدى السلطات التركية خطاً أحمر، كما أن صعود حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في تركيا، عزز من هواجس الدولة التركية تجاه الأكراد.
هنا بدأت تضعف المصالح المشتركة بين تركيا وداعش، إذ لم يعد التنظيم الارهابي قادراً على ضمان عدم تشكل دولة كردية في الشمال السوري، من ناحية أخرى أصبح يشكل عبئاً ثقيلاً على الدولة التركية وسمعتها أمام شعبها وشعوب المنطقة، فكان القرار التركي بالحد من حرية تحرك داعش على الأراضي التركية، وهذا ما تجلى من خلال اعتقال 21 مشتبها بهم في العاشر من الشهر الجاري.
فهم تنظيم داعش الرسالة التركية، ورد من خلال التفجير الارهابي في مدينة سوروتج التركية ذات الغالبية الكردية، مما أودى بحياة 32 مواطناً من الأكراد، وجرح العشرات. ويرى مراقبون أن استهداف داعش لمدينة حدودية ذات غالبية كردية، مع قدرته على استهداف مدن أكثر أهمية في العمق التركي، إنما أراد من خلاله توجيه رسالة إلى الحكومة التركية، مفادها بأنه قادر على نشر الفوضى واستغلال التركيبة السكانية ضد الحكومة التركية، من خلال ورقة الأكراد، الذين يتوزعون على 21 محافظة تركية، ويبلغ عددهم 18 مليون نسمة.
الدولة التركية التي أدركت على ما يبدو خطورة رسالة داعش، ومدى الضرر الذي يمكن أن يشكله التنظيم الارهابي على أمنها الداخلي نتيجة لحرية الحركة التي منحته إياها داخل الاراضي التركية، سعت من خلال حملة الاعتقالات الخاطفة التي نفذتها على أوكار داعش، الاستفادة من عنصر المفاجئة للحد من قدرة داعش على تنفيذ مزيد من العمليات الارهابية، إلا أن الوضع بشكل عام مرشح إلى كثير من التصعيد والتعقيد الداخلي.
الجدير بالذكر أن الطائرات التركية التي قصفت مواقع لداعش في محافظة حلب، على أطراف مدينة كوباني والقامشلي، كان بإمكانها أن تقوم بعمليات أكثر فاعلية ضد التنظيم الارهابي، وذلك من خلال استهداف الطريق الدولي الواصل بين تركيا وحلب، والذي يسيطر داعش على جانبيه في القسم الشمالي منه، مما يعني قطع طريق الإمداد الرئيس عن داعش، وشل حركته إلى حد كبير. إلا أن تركيا لا ترغب بشن عملية تؤدي إلى اضعاف تنظيم داعش بالشكل الذي يستفيد منه الأكراد، أو النظام السوري، لذلك أعلنت حربها على حزب العمال الكردستاني، بالتزامن مع حربها مع داعش، وهي تسعى من خلال ذلك للمحافظة على توازن القوى لصالحها، وهو لن يكون بالأمر السهل على الإطلاق، وقد يستنزف تركيا إلى حد كبير على جبهتين صعبتين.
صفقة أمريكية
باختصار نقول بأن السر في الخطوات التركية المتسارعة في فتح جبهتين ضد تنظيم داعش الارهابي وحزب العمال الكردستاني هو على ما يبدو صفقة أمريكية، تقول أمريكا لتركيا بموجبها، بأنكم غير مضطرين لاستخدام ورقة داعش لتحقيق طموحاتكم التوسعية، والحد من قوة الأكراد، على ما تحمله هذه الورقة من مخاطر على المدى البعيد، ما أنتم بحاجة إليه هو الدخول في التحالف الأمريكي، الذي يضمن لكم عدم دعم أمريكا لقيام دولة للأكراد في سوريا، والمساعدة على عدم وصل المناطق الكردية السورية ببعضها البعض، من خلال منع وصل اقليم الجزيرة (الحسكة) وكوباني عن طريق تل أبيض، ومنع وصل كوباني مع عفرين عن طريق انشاء منطقة عازلة بينهما ما بين مارع وجرابلس، وبالتالي تضمن لتركيا عدم اكتمال الشريط الكردي في الشمال السوري، ومن ناحية أخرى تحفظ لتركيا ماء وجهها في تحقيق المنطقة العازلة التي طالما طالبت بها، خاصة في ظل الانسحابات العربية من المعسكر الداعي لاسقاط النظام السوري.
إلا أن هذه الصفقة الأمريكية تحمل الكثير من المخاطر، وتنطوي على مقامرة كبرى، وينبغي لأردوغان أن يتعظ من تجربة تحالف تركيا مع حلف الناتو في ليبيا، والتي أضرت بالمصالح التركية، وحولت ليبيا إلى دولة فاشلة، وبثت الفتن والحروب في منطقة يغلب عليها مذهب وعرق واحد، فكيف سيكون الأمر في منطقة متعددة المذاهب والاعراق، أي تركيا وبلاد الشام.
ما تحتاجه تركيا وحزب العدالة والتنمية في الوقت الراهن، هو مراجعة جدية للسياسات التركية في السنوات الأربع الماضية، فاتخاذ القرار بفك الارتباط مع تنظيم داعش الارهابي لا يكفي، المطلوب هو اختيار الطريقة الأقل كلفة لتطبيق هذا القرار، وبالطبع لن يكون ذلك إلا من خلال التعاون مع المكونات الطبيعية للمنطقة، ومد اليد نحو محور المقاومة وإعادة العلاقة مع سوريا، وتعزيز العلاقات مع العراق ومقاطعة المصالح والمطامع الأمريكية في المنطقة.