الوقت – تشهد العلاقات التركية - الأمريكية تراجعاً حادّاً وغير مسبوق في الأشهر القليلة الماضية، فبالرغم من أن أأأنقرة كانت حتى الأمس القريب ضمن الحلف الغربي إلى جانب أوروبا وأمريكا، إلا أن اصطدام المصالح التركية مع المصالح الغربية في المنطقة أجج التوترات بينهما، والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: ما هي أسباب وآفاق هذا الخلاف المتجدد؟!
1. الخلفية التاريخية للاختلافات بين تركيا وأمريكا
بعد انتهاء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي عام 1991، شهدت العلاقات بين أنقرة وواشنطن تغيراً واضحاً، وذلك نظراً لزوال خطر الشيوعية الذي كان يشكّل في السابق عدوّاً مشتركاً يهدد البلدين، لذلك، فإن السنوات التي تلت نهاية الحرب الباردة كانت نقطة البداية للاختلافات بين البلدين، ووصلت حتى يومنا هذا، وفي هذا السياق تجدر الإشارة هنا إلى 3 حقبات زمنية:
الفترة 1991-2003: الخلاف حول حرب الخليج الأولى وحرب البلقان:
بدأ اختلاف وجهات النظر بين تركيا وأمريكا بعد انهيار الكتلة الشرقية عام 1991 وفي هذه الفترة شنّ الديكتاتور صدام حسين في 2 أوغسطس 1990 حرباً على الكويت، أعقبها شنّ التحالف الغربي الذي قادته أمريكا هجوماً على الجيش العراقي في يناير 1991 في عملية عرفت باسم "عاصفة الصحراء"، وخلال هذه الحرب المعروفة باسم حرب الخليج الأولى، منعت تركيا التحالف الغربي من استخدام أراضيها لمهاجمة الجيش العراقي كما ورفضت أيضاً الدخول في هذا التحالف المعادي لصدام، بالإضافة إلى ذلك، دعمت تركيا الجماعات الإسلامية في عهد حزب الرفاه الإسلامي ورئيس الوزراء نجم الدين أربكان في حرب البلقان (1991-1995)، على عكس استراتيجية الناتو.
من عام 2003 إلى عام 2011: معارضة تركيا لحرب التحالف الغربي ضد العراق:
في هذه الفترة، شنّت أمريكا وبريطانيا الى جانب تحالف ضمّ عدداً من الدول الأوروبية في 1 مايو 2003 حرباً على العراق الذي كان تحت رئاسة صدام حسين، وفي 1 مايو 2003 احتلوا هذا البلد، وخلال الحرب عارضت الحكومة التركية بشدة الضربة العسكرية الأمريكية ونشرت قواتها في المناطق الحدودية القريبة من محافظة اربيل شمالي العراق.
وكانت أنقرة في هذه المرحلة تخشى بشدة من البرنامج الأمريكي شمال العراق فيما يتعلق بإمكانية إقامة دولة كردية مستقلة، وأيضاً من مستقبل العراق الضبابي عقب هذا الهجوم، وعليه لم تسمح تركيا لقوات التحالف الأمريكي البريطاني باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية، وخلال هذه الفترة، وبعد انتهاء عمليات احتلال أمريكا للعراق، تحدث الرئيس جورج بوش إلى وكالة سي إن إن الإخبارية عن مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، وهذا ما أزعج القادة الأتراك كثيراً حيث أنه كان يشكّل عقبة أمام حلم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بإعادة تأسيس "الامبراطورية العثمانية".
ومن الأمثلة التي تدل أيضاً على الصدام التركي الأمريكي في تلك الفترة، نشر مركز الأبحاث الأمريكي الذي يعنى بدراسة المجموعات الإرهابية، تقريراً تطرق فيه إلى قيام أنقرة بدعم الجماعات الإسلامية التي تهاجم القوات الأمريكية، وقد أثارت هذه المسألة غضب المسؤولين السياسيين في البيت الأبيض ضد أنقرة وأوجد أرضية لزيادة الخلافات الخفية بينهما.
من عام 2011 حتى الوقت الحاضر: الاختلافات في وجهات النظر في منطقة غرب آسيا بعد موجة الصحوة الإسلامية:
منذ بداية موجة الثورات الشعبية في دول المنطقة في عام 2011، سعت تركيا، بالتعاون مع قطر إلى دعم جماعة الإخوان المسلمين في دول مصر وليبيا والمغرب وتونس، الأمر الذي لم يتماش بأي حال من الأحوال مع سياسات أمريكا في المنطقة.
وفي سياق الأزمة السورية، اشتدت الخلافات بين أنقرة وواشنطن منذ عام 2014، عندما قام الأمريكيون بتشكيل حلف استراتيجي مع الأكراد السوريين وقاموا بتقديم الدعم الكامل لهم، وقد اتهم أردوغان الأمريكيين باستمرار دعم الفرع السوري لجماعة الـ "بي كي كي" الإرهابية، وحثّهم على التوقف عن دعمهم على الأقل بسبب التحالف الاستراتيجي بين تركيا وأمريكا، لكن الأمريكيين لم يستجيبوا للطلب التركي بل زادوا من دعمهم لهذه الجماعات ما تسبب بغضب المسؤولين الأتراك، وفي ديسمبر 2016 عندما قررت تركيا تأسيس منطقة عازلة أمنياً تمتد من شمالي سوريا بمساحة 90 كلم طولاً و50 كلم عرضاً إلى منطقتي اعزاز وجرابلس في محافظة حلب، واجهت رفضاً صريحاً من جانب أمريكا وغيرها من البلدان الغربية، بما تسبب في امتعاض أردوغان من تصرفات حلفائه لدى الحلف الأطلسي "الناتو".
زيادة الاختلافات:
منذ عام 2016 وإلى يومنا هذا مرّت العلاقات التركية الأمريكية بمطبات كثيرة ما أدّى إلى تفاقم الوضع بينهما، ومن أهم هذه التطورات:
في 15 يوليو 2016، تعرّض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمحاولة انقلاب فاشلة، وبحسب تقارير وثائقية صدرت عن منظمة الأمن القومي (MIT)، زعمت أنقرة أن الأمريكيين كانوا المحرك الرئيسي للانقلاب، وأعلنت تركيا أن رجل الدين فتح الله غولن الذي ينعم بدعم أمريكي هو المسؤول عن الانقلاب، وعلى إثر ذلك طالبت أمريكا تسليمه إلا أن الأخيرة رفضت مرة أخرى الطلب التركي.
وفي أعقاب الانقلاب الفاشل، وفي أواخر عام 2016، وبسبب اضطراب العلاقات مع أوروبا وأمريكا، غيّرت تركيا نظرتها تجاه سوريا واتخذت خطوات قربتها من المحور الإيراني والروسي، ما زاد من الغضب الأمريكي، ومن بين هذه الخطوات:
1-في 31 ديسمبر 2016، توصلت تركيا إلى اتفاق مع روسيا لوقف إطلاق النار بين أطراف النزاع في سوريا، وقامت بفصل الجماعات المعارضة عن الجماعات الإرهابية كداعش والنصرة، واعترفت من جهة أخرى بالحكومة السورية والجيش السوري، ووقع الأتراك في الوقت نفسه عقدًا لشراء أنظمة دفاع صاروخي من طراز S400 مع الروس، بعد ذلك، زادت العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية بين أنقرة وموسكو، وفي يناير 2017 دخل الأتراك مباحثات استانة بمشاركة إيران وروسيا.
2-كما زاد الأتراك من علاقاتهم الاقتصادية مع إيران، حيث ارتفع حجم التجارة بين البلدين عام 2017 مقارنة بالعام الماضي بنسبة 14٪ إلى حوالي 8 مليارات دولار.
وحول القضية الفلسطينية، أعلن أردوغان وحلفاؤه رفضهم مراراً وتكراراً لما تقوم به الآلة العسكرية الصهيونية بحق الفلسطينيين، ولم يكتفِ بذلك بل اتخذ عدة إجراءات تعبيراً لرفضه ما يجري بحق الفلسطينيين في غزة والضفة ومن بينها: قطع العلاقات السياسية مع "إسرائيل" من 2010 إلى 2016 بسبب حادثة سفينة مرمرة، رفض القرار الأمريكي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الاسرائيلي، وعلى إثر ذلك قام بطرد السفير الإسرائيلي بعد يوم واحد من المجازر التي ارتكبها الكيان المحتل بحق الفلسطينيين خلال خروجهم في مسيرات "يوم العودة" السلمية، اجتماع طارئ لرؤساء الدول الإسلامية في اسطنبول بتاريخ 28/8/2013 ، بعد أربعة أيام من نقل السفارة، صياغة قرار يدين الاعتراف بالقدس عاصمة للنظام الصهيوني الذي تم نقضه من قبل مجلس الأمن بعد استخدام أمريكا للفيتو، هذه الإجراءات وغيرها أثارت غضب الأمريكيين وحلفائهم الغربيين أكثر من ذي قبل.
تصعيد غير مسبوق ترافق مع هجمات لفظية وتهديدات متبادلة بين قادة البلدين:
بدايةً، دعا ترامب في تغريدة له على تويتر في 26 يوليو 2018، إلى تحرير القس الأمريكي أندرو برونسون، الذي اعتقل في 9 ديسمبر/ كانون الأول 2016 (19 ديسمبر 1959) من قبل محكمة المهاجرين بتهمة التعاون مع فتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني، وسرعان ما ردت تركيا على تغريدة ترامب، قائلة على لسان وزير خارجيتها "تشاويش اوغلو" إنه لا يمكن لأحد أن يملي على تركيا ما تفعله.
وبعد رفض تركيا لطلب ترامب، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية في 1 اغسطس 2018 عقوبات اقتصادية على وزير العدل عبد الحميد غول ووزير الداخلية سليمان صويلو بسبب احتجاز القس، وقالت سارة ساندرز المتحدثة باسم البيت الأبيض إن الوزيرين لعبا دوراً رئيسياً في اعتقاله في 2016 ثم احتجازه.
في 8 اغسطس 2018 ذهب وفد من تركيا إلى واشنطن لحل الخلافات مع أمريكا، لكنه لم يحصل على أي نتائج، وعلى إثر ذلك فرضت تركيا عقوبات اقتصادية على وزيري العدل والداخلية الأمريكيين وقامت بتجميد أمولهما وممتلكاتهما في الأصول التركية، وعقب الخطوة التركية، غرد الرئيس الأمريكي ليعلن أن قيمة العملة التركية ستهبط بسرعة أمام الدولار، إضافة إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 20 بالمئة على استيراد الألمنيوم و50 بالمئة على استيراد الصلب من تركيا، وعقب هذه التغريدة، وقعت أزمة عملة ضخمة في السوق التركية، وفي يوم واحد فقط ارتفع الدولار إلى مستوى قياسي ليبلغ 6.91 ليرات، ردّ تركيا أتى على لسان أردوغان الذي اتهم أمريكا بالخيانة، بالإضافة إلى ذلك كتب الرئيس التركي في 11 أغسطس 2018 مقالاً نشر في صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية يعلن فيه نهاية التحالف الاستراتيجي بين البلدين وتأسيس حلف جديد مع روسيا في حالة استمرار الضغط الأمريكي.
وفي خطوة مستفزة، أعلن وزير التجارة التركي في 16 أغسطس، 2018 فرض رسوم جمركية على السلع الأمريكية بقيمة 533 مليون دولار، رد أمريكا لم يتأخر حيث أعلن وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين في 16 أغسطس أن أمريكا أعدت عقوبات جديدة على تركيا في حال لم يتم إطلاق سراح القس الأمريكي، ليغرد ترامب بعدها قائلاً "لديهم قس مسيحي رائع.. كان ينبغي أن يعيدوه لنا منذ فترة طويلة، وفي رأيي أساءت تركيا التصرف جداً جداً". ومضى قائلاً: "الأمر لم ينته بعد.. لن نقف مكتوفي الأيدي.. لا يمكن أن يأخذوا أبناء بلدنا". وبلهجة تهديدية، قال ترامب "سترون ما الذي سيحدث".
2. أسباب الخلافات بين أمريكا وتركيا
إن أسباب الخلافات بين أمريكا وتركيا على الرغم من تطورها في عهدي أردوغان وترامب، إلا أنها لا ترتبط بهاتين الشخصيتين أو خلال عهدهما وإنما علينا النظر أبعد من ذلك.
أ-تعارض الهوية التركية الغربية
إن المجتمعين الأمريكي والتركي، من حيث البنية الفلسفية والإيديولوجية، هما مجتمعان مختلفان تماماً، فأمريكا مجتمع مسيحي لديه مدارس سياسية ليبرالية، لكن تركيا، فهي مجتمع إسلامي، وعلى الرغم من أن لديها نظاماً سياسياً علمانياً، لكن الميول الدينية متجذرة فيها، وخاصة في العقود الأخيرة، والتي زادت مع ظهور الأحزاب الإسلامية، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية.
ب-القضية الفلسطينية
تسعى تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية إلى إحياء الإمبراطورية العثمانية الجديدة، كما وتسعى أيضاً إلى قيادة العالم الإسلامي، ومن هنا لا يمكنها أن تتعاون مع الأعداء في القضية الفلسطينية التي تعتبر القضية الأكثر أهمية في العالم الإسلامي، كما وتسعى من خلالها إلى تعزيز موقعها في العالم الإسلامي والمنطقة.
ج-الصفات النفسية والشخصية لكل من ترامب وأردوغان
لا شكّ أن الخصائص الشخصية والنفسية للرئيسين الأمريكي والتركي كان لها أثر كبير على تشديد الخلافات بين البلدين، فأردوغان يسعى لإظهار نفسه كقائد كبير في العالم الإسلامي، ومن هنا فهو يتمتع بشخصية مغرورة ومتكبرة، أما ترامب التاجر فلديه شخصية ضعيفة عديمة الخبرة يتأثر بمحيطه ويميل إلى فرض الضغوط على الدول الأخرى من أجل تحقيق مصالح بلاده الاستراتيجية.
د-الهيمنة والاستبداد
تعتبر أمريكا نفسها قوة عظمى من الطراز العالمي، بينما تركيا لا تعدّ أكثر من قوة إقليمية. ومن هنا وبسبب مطامعها ورغبتها العالمية، لا تتوقع أمريكا أن تقوم دولة ذات وزن محدود وحليفة تقليدية كتركيا بعصيان طلباتها واختيار طريق معاكس في الشؤون الإقليمية المختلفة في المقابل، لا يمكن لتركيا أن تكسر هيبتها وفخرها بميولها الإسلامية، وسعيها إلى إنشاء الإمبراطورية الإسلامية من جديد والسعي لقيادة العالم الإسلامي، وهي تحتضن المطالب الامبريالية الأمريكية والرغبات المعادية للإسلام والمسلمين.
3-مصالح الدول الأخرى في أزمة الخلافات بين أمريكا وتركيا
تتسمم العلاقات الروسية الصينية مع أمريكا اليوم بالتنافسية والندية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية، وعلى نفس المنوال، ترى أمريكا أن هاتين الدولتين هما التهديد الأول في استراتيجيتها للأمن القومي، ومنذ أربعة عقود كانت جمهورية إيران الإسلامية أيضاً في علاقة عدائية مع أمريكا، ولهذه الأسباب، رحبت روسيا والصين وإيران بانسحاب تركيا من الغرب، واتجاهها نحو الشرق، كما أن أمريكا لا تحترم القوانين الدولية وتغدر بحلفائها وترمي بهم فيما بعد، ومن هذا المنطلق ستستفيد جميع هذه الدول في التحالف فيما بينها.
من ناحية أخرى، فإن الكيان الصهيوني والسعودية والدول الأوروبية غير سعداء بانضمام تركيا وأردوغان إلى محور الشرق، ففي القضية الفلسطينية، تدعم تركيا الفلسطينيين وحماس، وتعارض خطط أمريكا وإسرائيل، كما وتعتبر تركيا السعودية منافساً قوياً لها على قيادة العالم الإسلامي، ويرى الاتحاد الأوروبي أن حزب العدالة والتنمية يبتعد عن شروط الانضمام إلى التحالف الأكبر والعضوية في الاتحاد الأوروبي، وهم يتمنّون أكثر من قبل أن تعود تركيا إلى جانبهم.
4-مستقبل الخلافات؟
إن الخلافات بين تركيا وأمريكا لديها جذور أيديولوجية، ومن هنا يمكننا القول إن الخلافات بين الطرفين آخذة بالتصاعد وذلك بسبب إصرار أمريكا على اعتماد سياسة الهيمنة والأحادية التي تتعارض مع السياسات المبدئية الدينية والوطنية لحزب العدالة والتنمية في تركيا، وبناءً عليه يجب على تركيا إما مواصلة هذا المسار الحالي أو العودة إلى الوضع السابق وتصبح عنصراً مستسلماً للغرب يعمل وفقاً لخططه وليس وفقاً لمصالحها الوطنية، وبسبب سيطرت القومية التركية على الحكم في تركيا يمكننا التأكيد أنه أصبح من الصعب عودة تركيا إلى الخندق الأمريكي والغربي من جديد.