الوقت- في تذبذب واضح ما بين صعود وهبوط، وعبر عدة مسارات متعرّجة، قطعت العلاقات التركية، مع السعودية من جهة والإمارات من جهة أخرى، رحلتها خلال السنوات الأخيرة. فباتت علاقاتهم تمثل لغزاً حقيقياً، كلما دنت الخطوات فيما بينهم وتقاربت، تباعدت المسافات أكثر وضوحاً. فما أسباب ذلك؟ ما أفق المرحلة الحالية؟ وهل ستقطع كلتا الدولتين شعرة معاوية في علاقاتها مع تركيا؟ كلها أسئلة نجيب عليها في هذا المقال.
تفاوت تركي - سعودي في الأهداف
لفهم طبيعة العلاقات التركية السعودية المعقدة، لا بد من الاقتراب من الأهداف العليا التي ترسمها كلا الدولتين وتسعى بجد إلى تحقيقها.
منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام ٢٠٠٢، يضع النظام التركي نصب عينيه تحرير السياسة التركية من الوصاية الخارجية، التي امتدت لعقود وأدت إلى تحويل تركيا إلى دولة هامشية مهمتها حماية الطرف الجنوبي لحلف الناتو من الخطر الشيوعي السابق، ثم ما لبثت أن فقدت هذه الوظيفة بانتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي.
حاليا تعمل بعض القوى العالمية على ضرب الاقتصاد التركي، أو تعطيل المشروع "الأردوغاني" قبل أن يصل إلى محطته المهمة في ٢٠٢٣،خصوصا أن أردوغان حقق إنجازا مهما في التخلص من الأدوار الوظيفية التي رسمت لتركيا خلال العقود الماضية، والتي انعكست على علاقتها بالحلفاء التقليديين وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
على الضفة الأخرى من المشروع التركي، يقع المشروع السعودي الذي يلعب أدواراً وظيفية مهمة من قبل النظام العالمي فيما يخص ملفات المنطقة، وعلى رأسها الملف الفلسطيني في ظل الجهود المتسارعة من أجل إتمام ما عرف بـ "صفقة القرن" التي يمثل اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل حلقة مهمة فيه، إذ تشير تقارير صحفية إلى أن ترامب لم يكن ليقدم على تلك الخطوة لولا حصوله على الموافقة من السعودية ومصر، كما لم تتأخر الرياض في دعم الرئيس الأمريكي بمئات المليارات من الدولارات، إضافة إلى الرحلات المكوكية التي قطعها صهر ترامب، جاريد كوشنر، إلى السعودية من أجل التحضير لما يعرف بـ "صفقة القرن".
بالتالي يظهر بوضوح أن مشاريع كلتا الدولتين لا يلتقيان أبدا. والحملات الإعلامية التي يقف وراءها أطراف نافذة داخل المملكة، والتي اقتصرت في مرحلة سابقة على وسائل الإعلام السعودية خارج المملكة، قبل أن تنضم إليها وسائل الإعلام الداخلية حالياً، خير دليل على ذلك.
ولا يمكن تجاهل الزيارة التي قام بها وزير الدولة السعودي المسؤول عن الشؤون الخليجية ثامر السبهان، إلى الرقة السورية برفقة منسق عمليات ما يسمى بالتحالف ضد داعش الجنرال بريت ماكغورك، وذلك عقب نجاح مليشيات الوحدات الكردية YPG في الاستيلاء عليها من داعش، حيث التقى السبهان بمسؤولين في حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، الذي تصنفه أنقرة تنظيماً إرهابياً وتعتبره امتداداً لحزب العمال الكردستاني وذراعاً سورياً له.
أثارت زيارة السبهان حينها جدلاً كبيراً في داخل تركيا إعلامياَ وسياسياً، إذ بدا واضحاً منها أن الرياض قررت أن تلعب في الفناء الخلفي لحليفتها الاستراتيجية (هكذا يفترض وفق الاتفاقيات الموقعة بين البلدين) في ملف من أكثر الملفات حساسية لدى تركيا، بل لا نبالغ إذ نقول إنه مدار عداوتها وصداقتها، فالخلاف المحتدم بين تركيا والولايات المتحدة، أو دول الاتحاد الأوربي وخاصة ألمانيا، الجزء الأكبر منه بسبب احتضان ودعم حزب العمال.
هذه الحساسية التركية تجاه ميليشيا PKK الانفصالية وأذرعها السورية، أمر تدركه السعودية جيداً، وتدرك عواقبه على علاقتها مع أنقرة، لكن يبدو أنها قررت قطع شوط المواجهة إلى نهايته.
العلاقة مع الإمارات
نشر موقع "هافنتغون بوست عربي" مؤخرا تقريرا يؤكد بأن الإمارات كان لها دور في الانقلاب الفاشل الذي حصل في تركيا العام الماضي. ولفت هذا التقرير إلى أن مسؤول تركي امني اكد بأن جهاز الاستخبارات التركي علم بأن الإمارات شاركت في بعض العمليات الإعلامية ضد تركيا خلال تلك الفترة التي سبقت ذلك الانقلاب الفاشل واكد ذلك المسؤول الأمني بأن الإمارات استخدمت بعض الصحفيين وبعض وسائل الإعلام مثل القناة التلفزيونية (أورينت تي في) للترويج لبعض الدعايات المسيئة للحكومة التركية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول أن الخلاف التركي مع الامارات شبه عقائدي يتعلق بالاخوان المسلمين، وقد ظهر الصدام في الفترة الأخيرة، إثر إعادة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد، لتغريدة مسيئة إلى القائد العثماني فخر الدين باشا، وإلى الرئيس التركي نفسه، الأمر الذي قابله عليه أردوغان برد عنيف، وصف فيه المسؤول الإماراتي بـ"البائس"، وانضم إليه مسؤولون أتراك آخرون رفيعو المستوى، بل أعلنت المعارضة التركية، رفضها للإساءة إلى القائد العثماني، في تصعيد يبدو أن تركيا قد قررت المضي فيه وعدم احتوائه كما في أزمات سابقة كانت أنقرة تعمد إلى احتوائها لاعتبارات اقتصادية في المقام الأول، إذ لم يعد خافياً تورط الإمارات في محاولة الانقلاب الفاشلة في ١٥ من تموز ٢٠١٦، وفي محاولة الانقلاب القضائية في كانون الأول ٢٠١٣، بل تشير تقارير إلى تورطها في إشعال أحداث غازي بارك في أيار ٢٠١٣.
هذا وتزامنا مع توجه رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم صباح الأربعاء إلى عاصمة السعودية الرياض، في زيارة رسمية لعقد مباحثات مع المسؤولين هناك، تشمل العلاقات الثنائية وملفات المنطقة. غرّد "مجتهد" على تويتر متحدّثا عن مهام مثيرة للجنة السعودية الإماراتية المشتركة، التي تشكلت قبل نحو أسبوعين، مصرّحا أن مهمّتها شن حملة إعلامية سياسية استخباراتية ضد تركيا، معلنا عن "مغامرات أمنية غبية مثل محاولات اغتيال ضد قيادات تركية، ومغامرات سياسية مثل قطع العلاقات أو منع السفر".
هي إذا أيام صعبة تنتظر العلاقات التركية مع الإمارات والسعودية، قد تدفع فيها الدولتان ثمن الحسابات الخاطئة، عندما يفرض عليهما ذات يوم خوض معاركهما الاستراتيجية منفردتين، بعد أن فرطتا بغرابة شديدة بالحلفاء والأصدقاء.