الوقت- تشهد الدبلوماسيّة السعوديّة تغيّرات ملحوظة منذ وفاة وزير الخارجية السابق سعود الفيصلّ، وتسلّم عادل الجبير لمنصبه الحالي. واللافت في قراءتها تأثر الصديق قبل العدو، بل تحوّل الصديق إلى عدو عند العديد من التغييرات التي شهدتها الدبلوماسيّة السعوديّة في العقد الأخير.
ربّما يلعب وزير الخارجيّة دوراً ما في رسم الاستراتيجية الدبلوماسيّة العامّة، خاصّة سعود الفيصل كونه من العائلة الحاكمة وابن ملك سابق إضافةً إلى تجربته في المنصب الدبلوماسي الأولي لفترة فاقت العقود الثلاث، إلا أن الملك، منذ العام 2015 ابنه، من ينسج العلاقات الإقليمية والدوليّة.
تعاني السعوديّة من جملة تحديّات، بعضها موروث والآخر مصطنع، دفعت بها لإجراء تغييرات جذرية في علاقاتها الخارجيّة أثّرت على أصدقاء المملكة، بعضهم كان صديقاً، إلا أنّه أصبح عدوّاً في طرفة عين كمصر، اليمن، قطر وتركيا، في المقابل أرخت هذه التبدّلات بظلالها على أنظمة أخرى لتتحوّل من موقع العدوّ إلى الصديق كمصر في حقبة الرئيس مرسي، والسودان، بل حتّى واشنطن، وتحديداً الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي نال نصيباً وافراً في الهجمات الإعلاميّة مقابل دعم واضح لهيلاري كلينتون، بات صديقاً وفيّاً للمملكة، رغم أنّه وصفها بالبقرة الحلوب التي يجب ذبحها متى جفّ حليبها.
هناك العديد من الحلفاء المقرّبين، أو التابعين باعتبار أن السعوديّة تنسج علاقتها مع العديد من الحلفاء بصيغة التبعيّة، تأثّروا بشكل سلبي من علاقاتهم مع السعوديّة، حتّى أن بعضهم بات مجبراً على تبديل سياسته الخارجيّة لأكثر من مرّة، كلّ ما تبدّلت المصلحة السعوديّة لا مصلحة بلاده. سنسعى هنا إلى ذكر بعض هذه المصاديق.
اليمن: ربط الرئيس اليمني المستقيل عبد ربّه منصور هادي مستقبله السياسي بالسعوديّة التي يبدو أنّها ستتنازل عنه قريباً. هادي الذي جاء بناءً على المبادرة الخليجية سيكتب عنه التاريخ أنّه الرئيس الذي دُمّرت البلاد في عهده من قبل "الشقيقة الكبرى".هادي استقوى على اليمنيين بالسعوديّة، بل السعوديّة استغلّت هادي "الرئيس الدميّة" لتبرير عدوانها على اليمن منذ آذار العام 2015، فهل هكذا يكون مصير الدول الحليفة في حال خرجت عن طوع المملكة التي نقضت حينها اتفاق السلم والشراكة وحاولت المضيّ بمشروع الأقاليم الستّة لتقسيم البلاد؟ هل يُفترض بحلفاء الرياض، التي تعتبر نفسها "الشقيقة الكبرى" التسبيح بحمد الملك وحتّى لو كان الأمر بتقسيم البلاد، وإلا سيكون تشريد العباد هو الخيار؟ نسأل أيضاً: إذا كانت تقف إلى جانب فئة يمنية ضدّ أخرى، فلماذا منعت اليمنيين من أداء مناسك الحج لعامين متتاليين؟
مصر: تأذّت جمهورية مصر العربية كثيراً من السعوديّة. لست أتحدّث عن عهد الرئيس جمال عبد الناصر وخلافه مع الملك سعود، بل عن مرحلة ما بعد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وتحديداً حقبتي الرئيسين محمد مرسي وعبد الفتاح السيسي. بدت المواقف السعوديّة تجاه مصر صبيانيّة أكثر من المتوقّع، لاسيّما في ظل حقبة الأمير الشاب محمد بن سلمان، لينتهي الأمر بالقاهرة في التنازل عن ملكيّة جزيرتي تيران وصنافير. في الحقيقة، حاولت السعوديّة رهن القرار المصري، وعند كل موقف رفض فيه السيسي الانصياع للأوامر السعوديّة كان الهجوم السعودي بارزاً. لا نختلف أن المصلحة المصرية تحاول تدوير الزوايا مع الرياض بما يصب في صالحها، وكل ما عدا ذلك بدا الموقف المصري حازماً، وخير دليل على ذلك موقف مصر من سوريا والرئيس الأسد، إلا أنّ مصر قد تأذّت كثيراً من مواقف الرياض تجاه سياستها الخارجيّة.
قطر: لعل قطر النموذج الحيّ، والأبرز، على تاثر الدول سلباً بعلاقاتها القويّة مع السعوديّة. فبعد أن كانت قطر حليفاً رئيسياً للسعودية في العام 2011 مطلع الأزمة السورية، باتت عدوّاً بارزاً في الأزمة الخليجية الأولى التي أفضت إلى سحب السفراء، والتوقيع بعدها على مبادرة حاولت فيها الرياض رهن قرار الدوحة لصالحها. اليوم، تحاول السعوديّة أن تفعل الأمر ذاته، ورغم مطالبتها لقطر في البنود الـ13 بقطع العلاقات مع ايران، فإن الإمارات تربطها علاقات اقتصاديّة قويّة مع ايران. على سبيل المثال، سلطنة عمان حافظت على وسطيتها ولم ترهن نفسها للقرار السعودي، وبالتالي باتت الرياض مجبرة على الرضوخ لدبلوماسيّة مسقط تجاه ايران والعديد من الملفات الخارجيّة. العلاقات التي بنتها قطر مع السعودية، دفعت بالأخيرة لفرض شروط على الدوحة لا تطيقها ما أدّى إلى بروز ما يعرف حالياً بالحصار والأزمة الخليجية. الأمر ذاته يسري على تركيا التي تقف أمام دعم سعودي للأكراد من ناحية، والداعية فتح الله غولن زعيم التيار الموازي في تركيا من ناحية أخرى.
دول أخرى: نكتفي بذكر مصداقين الأول غير خليجي والثاني خليجي. السعوديّة التي منعت طائرة البشير، إبان تقاربه مع ايران، من المرور فوق أراضيها، باتت أبرز الداعمين له اقتصاديّاً، مقابل رهن قراره السياسي، إضافةً إلى خسارة الجيش السوداني للمئات من جنود في العدوان على الشعب اليمني. السعوديّة تستقوي على عدوّها، حليفها السابق، اليمني بحليفها، عدوّها السابق السوداني وعلى ذلك فقس. الكويت هي الأخرى تعيش حالة غليان على نار هادئة في ظل امساك التيار السلفي المدعوم سعوديّاً بمفاصل مهمّة في الإمارة الخليجية. هناك أصوات كويتية عدّة تؤكد امتعاض الملك من الوضع القائم، إلا أنّه كبالع الموس، غير قادر على السكوت وغير قادر على المواجهة لأن انتفاضته في وجه التيار السلفي الذي يهدّد الحكم يعد تحدّيات واضحة للرياض التي قد تتورّط بمحاولة انقلاب كما فعلت سابقاً مع اكثر من دول خليجية.
العديد من الدول التي لسنا في وارد ذكرها، قد تأذّت من علاقاتها مع السعوديّة، ولكن يبدو واضحاً أن الدول التي نسجت علاقات قويّة مع السعوديّة عرّضت نفسها للخراب، كذلك الأمر بالنسبة للدول التابعة في حال قرّرت الخروج عن طاعة الملك، وبالتالي فإن هذه الدول إمّا تتعرّض للدمار السياسي أو الجغرافي، أو تسير على حافّة الهاوية، وبين هذا وذاك تبقى الدول التي تنسج علاقات فاترة مع السعوديّة هي الرابح الأكبر، فكلّما ارتفعت حرارة العلاقة، لدولة ما، مع الرياض، كلّما كانت هذه الدولة عُرضة للاحتراق بالحرارة نفسها.