الوقت- في ظلّ استمرار التوتر في قطاع غزة، عاد الجدل السياسي والدبلوماسي إلى الواجهة بعد عملية اغتيال نفذتها إسرائيل وأسفرت عن مقتل قائد بارز في حركة حماس، وهي خطوة أعادت طرح أسئلة جوهرية حول مستقبل اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بوساطة أمريكية ودعم إقليمي ودولي. الحدث لم يكن عسكرياً فحسب، بل حمل أبعاداً سياسية عميقة، خصوصاً بعد التصريحات المنسوبة إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي اعتبر فيها أن العملية لا تُصنَّف بالضرورة على أنها انتهاك لاتفاق وقف إطلاق النار، في وقت صدرت فيه رسائل شديدة اللهجة من البيت الأبيض إلى رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تحذّره من تداعيات هذا السلوك على الهدنة الهشّة.
وقعت عملية الاغتيال في منتصف ديسمبر 2025، عندما شنّت قوات الاحتلال الإسرائيلي غارة استهدفت موقعاً في قطاع غزة، مؤكدة أنها كانت عملية “دقيقة” استهدفت قائداً عسكرياً بارزاً في حماس. إلا أن حركة حماس أعلنت أن الضربة أدت إلى سقوط ضحايا آخرين، ووصفتها بأنها خرق مباشر لاتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ قبل أسابيع قليلة. مصادر في حماس شددت على أن الاتفاق ينص على وقف العمليات العسكرية الهجومية، معتبرة أن الاغتيال يقوّض أي ثقة متبادلة بين الأطراف، ويفتح الباب أمام تصعيد جديد قد يجرّ المنطقة إلى جولة عنف أخرى .
في المقابل، جاءت المواقف الأمريكية متباينة في ظاهرها. فقد نقلت وسائل إعلام أمريكية أن الرئيس ترامب لا يرى، من الناحية الرسمية، أن العملية تشكّل انتهاكاً مباشراً لبنود وقف إطلاق النار، مشيراً إلى أن الإدارة لا تزال تراجع تفاصيل ما جرى وسياقه. هذا الموقف العلني ترافق مع رسائل غير معلنة في البداية، وُصفت بأنها شديدة اللهجة، بعث بها البيت الأبيض إلى نتنياهو، عبّر فيها مسؤولون أمريكيون عن قلقهم من أن استمرار مثل هذه العمليات قد يؤدي إلى انهيار الاتفاق الذي رعته واشنطن نفسها، ويضعف موقع الولايات المتحدة كضامن رئيسي للهدنة .
هذا التناقض الظاهر بين الخطاب العلني والرسائل الدبلوماسية الخاصة يعكس تعقيد المشهد السياسي الذي تتحرك فيه الإدارة الأمريكية. فمن جهة، تواجه واشنطن ضغوطاً داخلية قوية، سواء من الكونغرس أو من جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل، ما يدفعها إلى تجنّب توجيه اتهام صريح للكيان بخرق الاتفاق. ومن جهة أخرى، تدرك الإدارة الأمريكية أن أي انحياز غير مشروط لإسرائيل في هذه المرحلة قد ينسف الجهود التي بُذلت للوصول إلى وقف إطلاق النار، ويعيد المنطقة إلى مربع الصراع المفتوح، وهو ما لا يخدم المصالح الأمريكية ولا الاستقرار الإقليمي.
البيت الأبيض، بحسب تقارير إعلامية، عبّر في رسائله لنتنياهو عن استغرابه من توقيت العملية، معتبراً أن تنفيذ اغتيال من هذا النوع خلال فترة تهدئة لا يمكن تفسيره إلا كتصرف يفتقر إلى الحكمة السياسية. ونقلت بعض المصادر أن لهجة الرسائل الأمريكية وصلت إلى حد التساؤل: إذا لم يكن هذا الفعل انتهاكاً لوقف إطلاق النار، فكيف يمكن تفسيره؟ هذا التساؤل يعكس إدراكاً أمريكياً بأن مثل هذه العمليات، حتى إن لم تُصنَّف قانونياً كخرق صريح، فإنها تقوّض روح الاتفاق وتضعف فرص استمراره .
تحليل هذا الموقف يكشف أن الإدارة الأمريكية تحاول السير على حبل مشدود بين الحفاظ على تحالفها الاستراتيجي مع الكيان، وبين دورها كوسيط وضامن لاتفاق وقف إطلاق النار. إلا أن هذا التوازن يبدو هشاً، لأن الرسائل المتناقضة قد تُفسَّر من قبل الأطراف المختلفة بطرق متباينة. فإسرائيل قد ترى في عدم توصيف العملية كخرق رسمي ضوءاً أخضر لمواصلة سياسة الاغتيالات، بينما ترى حماس في ذلك دليلاً على انحياز أمريكي واضح، ما قد يدفعها إلى إعادة النظر في التزامها بالهدنة.
من زاوية أخرى، يرى محللون أن موقف ترامب يعكس مقاربة سياسية براغماتية، تقوم على عدم تفجير الخلاف مع نتنياهو علناً، مع محاولة احتواء الموقف عبر القنوات الدبلوماسية. غير أن هذه المقاربة تحمل مخاطر حقيقية، إذ إن غياب موقف حازم قد يشجع على مزيد من التجاوزات، ويجعل وقف إطلاق النار مجرد إطار نظري لا يحظى بضمانات فعلية على الأرض. كما أن هذا السلوك قد يضعف ثقة الأطراف الإقليمية الأخرى، التي لعبت دوراً في التوصل إلى الاتفاق، بقدرة واشنطن على فرض التزامات واضحة على حلفائها.
أما على المستوى الإقليمي، فقد أثار الاغتيال ردود فعل متباينة، حيث حذّرت أطراف إقليمية من أن استمرار سياسة الاغتيالات سيؤدي حتماً إلى انهيار الهدنة، معتبرة أن أي عملية عسكرية من هذا النوع تمثل، في جوهرها، خروجاً عن منطق التهدئة. هذه الأطراف شددت على أن وقف إطلاق النار لا يمكن أن يصمد إذا استُخدم كغطاء لتنفيذ عمليات أحادية الجانب، لأن ذلك سيؤدي إلى ردود فعل متسلسلة قد تخرج عن السيطرة.
في المحصلة، يبرز سؤال جوهري في قلب هذا الجدل: إذا لم يكن اغتيال قائد عسكري بارز خلال فترة وقف إطلاق النار انتهاكاً لهذا الاتفاق، فما الذي يمكن اعتباره انتهاكاً؟ من الناحية السياسية، يصعب فصل هذا الفعل عن سياق تقويض التهدئة، حتى لو جرى تبريره بتفسيرات قانونية ضيقة. إن استمرار هذا النهج، مقروناً بمواقف أمريكية ملتبسة، قد يؤدي إلى إفراغ اتفاق وقف إطلاق النار من مضمونه، وتحويله إلى مجرد هدنة مؤقتة قابلة للانهيار في أي لحظة.
ختاماً، تبدو أزمة اغتيال قائد في حماس اختباراً حقيقياً لمصداقية اتفاق وقف إطلاق النار ولدور الولايات المتحدة كراعٍ له. فإما أن تُترجم التحذيرات الأمريكية إلى مواقف واضحة تضمن احترام بنود الاتفاق وروحه، أو يستمر الغموض السياسي الذي قد يفتح الباب أمام تصعيد جديد. وفي كلتا الحالتين، يبقى المدنيون في غزة هم الحلقة الأضعف، يدفعون ثمن الحسابات السياسية والعسكرية، في وقت كان يُفترض أن يشكّل وقف إطلاق النار خطوة أولى نحو تهدئة دائمة واستقرار مفقود منذ سنوات.
