الوقت – اندلعت من جديد نيران القضية التي طالما أرهقت كاهل إدارة ترامب على مدار شهور متعاقبة، فبعدما أماط الديمقراطيون المناوئون لترامب اللثام عن رسائل تُثبت صلة الوشائج بين إبستين وترامب، يجابه البيت الأبيض الآن عاصفةً هوجاء تتعلق بعلاقة ترامب بالمجرم الجنسي “جيفري إبستين”، ذلك الثري الذي لوثت يداه براءة الأطفال وانتهك حرماتهم.
تصاعدت حدة الضغط على ترامب عقب إماطة لجنة الرقابة بمجلس النواب اللثام في الأسبوع المنصرم عن آلاف الوثائق العائدة لإبستين، جُلها رسائل إلكترونية، وبعد برهة وجيزة، أعلن مجلس النواب عزمه على التصويت في الأسبوع المقبل على نشر المزيد من خبايا قضية إبستين التي تقبع في أدراج وزارة العدل.
ملفات إبستين: من كلينتون إلى ترامب
في عام ألفين وثمانية، وبعدما أفضى والدا فتاة في ربيعها الرابع عشر إلى شرطة فلوريدا بأن إبستين اعتدى على فلذة كبدهما في قصره ببالم بيتش بفلوريدا، خضع إبستين لمساءلة النيابة العامة، أفضى ذلك إلى تفتيش دقيق لمسكن إبستين والعثور على مئات الصور لفتيات لم يبلغن سن الرشد القانوني، وُجِّهت لإبستين في تلك التحقيقات الأولية تهمة استدراج قاصر لعلاقة جنسية، بيد أنه تمكن من الإفلات من شَرَك العدالة.
وبعد أحد عشر عاماً، وُجِّهت إليه تهمة إدارة شبكة من الفتيات القاصرات لإشباع نزواته الجنسية الدنيئة، وعقب إلقاء القبض عليه، لقي إبستين حتفه خلف قضبان السجن، وأُعلنت وفاته انتحاراً في ظروف أحاطتها الشكوك من كل جانب.
مع ذلك، كشفت التحقيقات الجنائية في قضية إبستين النقاب عن كنز وافر من الوثائق، تشمل نصوص مقابلات مع الضحايا والشهود واتصالات متشعبة معه، وهذه المجموعة الثمينة من الوثائق ترقد الآن في أدراج وزارة العدل الأمريكية.
ما الذي أُميط عنه اللثام سابقاً بشأن إبستين؟
ليس كشف النقاب عن رسائل إبستين الإلكترونية الأخيرة المتعلقة بترامب، أول فصول هذه القضية التي تتوالى حلقاتها على يد لجنة الرقابة بمجلس النواب، فقد سبق أن نُشر في أيلول/سبتمبر، أي قبل نحو شهرين من الآن، دفتر يحوي مذكرةً لإبستين تضمنت اسم ترامب، غير أن الأخير جحد وجود مثل هذا الأمر جملةً وتفصيلاً.
في العام المنصرم، وبعد أسابيع معدودة من اعتلاء ترامب سدة الرئاسة، نشرت وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي “المرحلة الأولى من ملفات إبستين المرفوع عنها ستار السرية”، بيد أن هذه الوثائق كانت في غالبيتها مواد سبق طرحها للعلن، احتوت تلك الوثائق على تقارير رحلات من طائرة إبستين ونسخة منقحة من دفتر اتصالاته الذي ضمّ بين دفتيه أسماء شخصيات ذائعة الصيت.
وفي شهر تموز/يوليو، أي قبل نحو أربعة أشهر، أعلنت وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي أنه لن يُفصح عن أي وثائق أخرى من ملف إبستين، ومع ذلك، ورد اسم ترامب مرات عديدة في آخر الرسائل الإلكترونية المنشورة التابعة لمؤسسة إبستين، رغم نفيه المستمر لأي مخالفة أو تجاوز.
كما ذُكر اسم إيلون ماسك، الملياردير ذائع الصيت، وأندرو مونتباتن-ويندزور، المعروف سابقاً باسم الأمير أندرو، في تقارير شهر أيلول/سبتمبر، سبق لمونتباتن-ويندزور أن نفى بشدة أي تجاوز، ونُقل عن ماسك أن إبستين دعاه إلى جزيرته الخاصة لكنه رفض الدعوة ولم يستجب لها.
ووفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، ورد اسم ترامب أيضاً في وثائق مكتب التحقيقات الفيدرالي غير المنشورة المتعلقة بإبستين، وقد أُحيط ترامب علماً بذلك من قِبَل المدعي العام الأمريكي.
برزت عشرات الأسماء الأخرى في وثائق إبستين المكشوفة، من بينها بيل كلينتون، الرئيس الأمريكي الأسبق، ومايكل جاكسون، المغني الأمريكي الشهير، اللذان وردا في الوثائق المرفوعة عنها الأختام والبالغة تسعمئة صفحة، ومع ذلك، ينفي كل من الرئيس الأمريكي الأسبق والعائلة الملكية البريطانية أي معرفة بجرائم إبستين، وقد وافت المنية جاكسون في عام 2009.
ما الذي نعلمه عن علاقات ترامب بإبستين؟
يبدو أن ترامب وإبستين تعاقدت بينهما أواصر الصداقة لسنوات طويلة، كشفت الملفات السابقة المنشورة أيضاً وجود معلومات ترامب في دفتر اتصالات إبستين، كما تُظهر تقارير الرحلات أن ترامب قد رکب طائرة إبستين في مناسبات متعددة.
کما التُقطت لهما صور تجمعهما في مناسبات مرموقة خلال تسعينيات القرن الماضي، وتُظهر الصور التي بثتها شبكة CNN إبستين على ما يبدو في حفل زفاف ترامب على “مارلا ميبلز”، زوجته السابقة.
في عام 2002، أسبغ ترامب على إبستين أوصاف الرجل الرائع والمتميز. وذكر إبستين في وقت لاحق: “كنت الصديق الأقرب لدونالد على مدى عشر سنوات كاملة”.
وفقاً لرواية ترامب، دبّ الخلاف بينهما في مستهل العقد الأول من الألفية الثالثة، قبل عامين من الاعتقال الأول لإبستين، وفي عام 2008، صرح ترامب أنه “ليس من أنصار إبستين أو مؤيديه”.
أفصح البيت الأبيض أن الجفوة بين ترامب وإبستين كانت متصلةً بسلوك الأخير المشين، وأن الرئيس نأى به عن حلقة المقربين منه بسبب تصرفاته المثيرة للاشمئزاز، لكن صحيفة واشنطن بوست كشفت أن قطع أواصر علاقتهما كان نتيجة التنافس المحموم على بعض العقارات الثمينة في فلوريدا.
تتضمن الرسائل الإلكترونية المكشوفة أيضاً مراسلات متبادلة بين إبستين ومايكل وولف، مؤلف عدة مؤلفات عن دونالد ترامب.
ما انفك أنصار حركة “ماغا” الأشداء، وهم عماد مؤيدي ترامب، يعتقدون منذ أمد بعيد أن السلطات تُخفي حقائق جوهرية تتعلق بحياة إبستين ومماته.
هروب ترامب إلى الأمام
من ناحية أخرى، غيّر ترامب موقفه جذرياً وطلب من النواب الجمهوريين في مجلس النواب التصويت لمصلحة إماطة اللثام عن الوثائق المتصلة بقضية إبستين؛ وهو تحول واضح عن موقفه السابق، کتب ترامب في رسالة على منصة “تروث سوشال”: “ينبغي على الجمهوريين في المجلس التصويت لنشر وثائق إبستين، لأنه ليس في جعبتنا ما نخفيه”.
يأتي هذا التحول الجذري بعد أيام من ممانعة ترامب لهذا المقترح، في وقتٍ يتأهّب فيه مجلس النواب للتصويت هذا الأسبوع على مشروع يُلزم وزارة العدل الأمريكية بكشف الوثائق للعامة.
يبدو أن مناصري هذا المشروع يملكون في جعبتهم الأصوات الكافية لإقراره في مجلس النواب، رغم أنه لم يتجل بعد ما إذا كان سيظفر بالنجاح في مجلس الشيوخ أم لا.
يسعى الديمقراطيون وثلة من الجمهوريين حثيثاً لإرغام وزارة العدل الأمريكية على نشر المزيد من خفايا ملف جيفري إبستين، ومع ذلك، يبدو أن ترامب، بإصراره المحموم على النشر الكامل للوثائق المتصلة بجيفري إبستين، يحاول الهروب إلى الأمام، مولياً ظهره للحقيقة، هذا في وقتٍ كشفت فيه تحقيقات صحيفة وول ستريت جورنال النقاب عن أن اسم ترامب ورد في أكثر من 1600 حالة من 2324 سلسلة بريد إلكتروني متعلقة بإبستين.
من ناحية أخرى، يرمي ترامب من وراء إلحاحه على نشر جميع وثائق إبستين، إلى التضييق على خصومه الديمقراطيين والزجّ بهم في أتون الأزمة، فبالإضافة إلى اسم بيل كلينتون، الرئيس الأسبق والديمقراطي الأمريكي، أكدت وزارة العدل أنها ستمحص الصلات المحتملة لإبستين مع عدة مصارف كبرى وعدد من الديمقراطيين البارزين، صرح ترامب أنه سيطلب من المدعي العام، بام باندي، وكذلك مكتب التحقيقات الفيدرالي، التحقيق في “مدى دور وارتباط” إبستين ببيل كلينتون وآخرين، نفى كلينتون بشدة أي معرفة بجرائم إبستين أو تورط فيها.
مع ذلك، لا يزال الغموض يلف مصير هذه الوثائق وما إذا كانت ستُماط عنها الحجب كاملةً حتى لو صوَّت الكونغرس لصالح نشرها، وهو ما حوّل وثائق إبستين إلى سلاح فتاك في أيدي الحزبين السياسيين الأمريكيين يشهرانه في وجه بعضهما البعض في معركة سياسية ضارية.
