الوقت- أثارت التصريحات الأخيرة للمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا ولبنان حالة واسعة من الجدل، بعدما بدا وكأنه يوجّه عبارات إيجابية تجاه أبو محمد الجولاني، وهو أمر نادر في الخطاب الأمريكي الرسمي، لكن المضمون الحقيقي لهذا المديح يكمن في دلالاته؛ فهو مؤشر إلى مرحلة جديدة يعيشها الجولاني، مرحلة تعبّر عن ضعف سياسي وضغط داخلي يجعله في موقع الباحث عن أي اعتراف خارجي يمكن أن يمنحه شرعية إضافية.
وتفسير هذا الضعف يتصل بتراكم أزمات داخلية في مناطق سيطرته، إضافة إلى الصراع مع فصائل أخرى ومحاولاته الدائمة لتلميع صورته سياسيًا، ومع ذلك، يراه منتقدوه شخصًا فقد الاهتمام بكل ما يُعدّ ثوابت وطنية، بل يرون أنه مستعد لتقديم تنازلات في الأرض أو القرار المحلي ما دام ذلك يضمن استمرار حكمه، وهي نقطة أساسية تكشف عمق التحولات التي طرأت على دوره وموقعه.
تصريح واشنطن حول تعاون دمشق… رسائل أبعد من ظاهرها
التصريح الأمريكي الذي يؤكد أن دمشق قدّمت “تعاوناً كاملاً” مع واشنطن يمثّل تحولاً مهماً في الخطاب السياسي، فالحديث عن تعاون بهذا المستوى يوحي بوجود قنوات مفتوحة حول ملفات حساسة، وربما بوجود تفاهمات يصعب إعلانها رسمياً.
ويُعدّ هذا الاعتراف خطوة لافتة لأن واشنطن عادة ما تتحدث عن مطالب وضغوط، لا عن تجاوب كامل، لكن رغم هذا التعاون، أشار المبعوث إلى أن "إسرائيل" لم تصل بعد إلى مستوى الثقة المطلوب، ما يفسر البطء الشديد في أي تقدم سياسي، ويظهر هنا أن واشنطن، رغم التصريحات الإيجابية، لا تزال تستخدم هذا الملف كأداة ضغط باتجاه ترتيبات إقليمية أوسع.
لماذا يرحّب الجولاني بالإشادة الأمريكية؟
قراءة المشهد تُظهر أن استقبال الجولاني لأي مديح خارجي ليس مجرد رغبة في تحسين الصورة، بل نتيجة لحسابات دقيقة مرتبطة بتراجع نفوذه، فهو يواجه تحديات داخلية متراكمة، من بينها فقدان الدعم الشعبي في بعض المناطق، وتضييق الخناق من فصائل تنافسه، وتقلب المواقف الإقليمية التي ترتبط وجوداً وغياباَ بتطورات الوضع الدولي.
وفي هذا الإطار، تصبح الإشادة الأمريكية ولو غير مباشرة جزءاً من استراتيجية البقاء، لكن ذلك يفتح الباب أمام انتقادات واسعة تتهمه بأنه أصبح لاعباً متحولاً لا يمانع التضحية بالمبادئ من أجل النفوذ، وهذا ما يعكسه المشهد الجديد الذي يظهر فيه الجولاني باحثاً عن الشرعية بدل فرضها.
حسابات الجولاني في ظل تغيّر الميدان
لا يمكن فهم سلوك الجولاني اليوم دون النظر إلى التغيرات الكبيرة في الخريطة الميدانية شمال سوريا، فمع تقلص الدعم الخارجي وتراجع قدرة فصيله على فرض استقرار إداري، بات يلجأ إلى إعادة صياغة دوره السياسي بصورة تجعله لاعباً قابلاً للتعامل دولياً.
وتحاول هيئة تحرير الشام تحسين العلاقات مع أطراف إقليمية بهدف تثبيت نفوذها، لكن هذه الخطوات تصطدم بواقع معقد يتضمن تنافساً داخلياً ورفضاً شعبياً متصاعداً لسياساتها، وفي ظل هذا المشهد، يبدو الجولاني مستعداً للتنازل عن عناصر من خطابه السابق مقابل البقاء لاعباً رئيسياً في الشمال.
دمشق بين التعاون والحذر… ماذا تخفي التصريحات؟
إعلان واشنطن عن تعاون كامل من جانب دمشق ليس تفصيلاً بسيطاً، فهو يشير إلى وجود مستويات من التنسيق ربما ترتبط بملفات أمنية حساسة، أو بحوارات تتعلق بترتيبات ميدانية متعلقة بالحدود والقوات الأجنبية، لكن، ورغم هذا التعاون، لا يبدو أن الولايات المتحدة مستعدة لتغيير سياساتها تجاه سوريا بشكل جذري، فهي لا تزال متمسكة بالعقوبات والضغوط السياسية، أما "إسرائيل"، التي تُعدّ طرفاً رئيسياً في أي مسار مرتبط بسوريا، فهي لا تتحرك بسهولة تجاه أي تفاهمات جديدة، ما يجعل التقدم بطيئاً ومشروطاً بحسابات أمنية دقيقة.
ارتباط الحدثين في مشهد واحد
ورغم أن الحديث عن الجولاني والتعاون مع دمشق يبدو منفصلاً، إلا أن وضعهما في سياق واحد يكشف طبيعة المرحلة السورية الحالية، فكل الأطراف من الفصائل المسلحة إلى الحكومة المركزية إلى القوى الإقليمية والدولية تتحرك داخل معادلة متغيرة. الولايات المتحدة، بدورها، تدير المشهد عبر موازنة دقيقة: فهي لا تمنح ثقة كاملة لأي طرف، لكنها تترك أبواباً مفتوحة للجميع. وفي الوقت نفسه، تحاول الأطراف المحلية تثبيت مواقعها وسط تغيّر مستمر في موازين القوى، وهنا يظهر الجولاني كفاعل يسعى لتثبيت حضوره، بينما تعمل دمشق على تقليل عزلتها عبر التعاون في مسارات محددة، دون أن تحصل فعلياً على ضمانات طويلة المدى.
تعقيدات الدور الإقليمي وتأثيره على الأطراف السورية
التحولات الإقليمية تلعب دوراً حاسماً في رسم ملامح المرحلة داخل سوريا، فالدول المجاورة تعيد تقييم مواقفها بناءً على مصالح أمنية واقتصادية تتغير بسرعة، ما ينعكس مباشرة على سلوك الفصائل والجهات الرسمية، ويظهر ذلك بوضوح في طريقة تعامل الجميع مع واشنطن، سواء عبر التنسيق أو محاولة استرضاء الطرف الأقوى في المعادلة الدولية.
كما أن الانشغال الإقليمي بملفات أكبر من الحدود إلى الطاقة يجعل الساحة السورية جزءاً من صفقات أوسع. هذا المناخ يضع الأطراف المحلية بين ضغوط متعارضة، فتسعى كل جهة للحفاظ على موقعها ضمن شبكة نفوذ تتغير باستمرار.
مشهد سوري أكثر غموضاً وتعقيداً
ما تكشفه هذه التصريحات هو أن سوريا ما زالت ساحة مفتوحة لإعادة رسم الخريطة السياسية، الجولاني يتحول من قائد فصيل راديكالي إلى طرف يسعى للحصول على إشارات رضا دولية، بينما دمشق، رغم تعاونها، لا تزال تواجه غياب الثقة من كل الأطراف، وفي ظل هذا المشهد، تتحرك القوى الإقليمية والدولية عبر حسابات دقيقة، فيما يبقى الشعب السوري الطرف الأكثر تضرراً من هذا التعقيد، ومع غياب أي حلول سياسية قريبة، تبدو المرحلة المقبلة محمّلة بالمزيد من التحولات، حيث تستمر الأطراف المتصارعة في إعادة ترتيب أوراقها بحثاً عن مكاسب جديدة، بينما يبقى الاستقرار هدفاً مؤجلاً ينتظر ظروفاً لم تنضج بعد.
