الوقت- في مشهد جديد من مشاهد التحريض والعنصرية التي باتت سمةً ملازمة لسياسات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، ظهر وزير الأمن القومي في الكيان الإسرائيلي إيتمار بن غفير، أحد أبرز وجوه اليمين الفاشي، وهو يشرف ميدانيًا على حملة لتوزيع أوامر هدم تستهدف منازل الفلسطينيين العرب في منطقة النقب جنوب فلسطين المحتلة.
اللقطات التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت الوزير المتطرف وهو يتجول بين بيوت المواطنين البدو محاطًا بعناصر من الشرطة والوحدات الخاصة، متحدثًا بطريقة استفزازية ومهينة مع السكان، وموجهًا إليهم أوامر بالإخلاء والرحيل، زاعمًا أن وجودهم “غير قانوني”، وأنه “ينفذ سيادة القانون” في المنطقة.
هذه الحملة التي حملت اسم "نسر الجنوب 3" جاءت في إطار سياسة ممنهجة تهدف إلى اقتلاع الوجود العربي في النقب، وتهويد ما تبقّى من أراضيه، تحت ذرائع “البناء غير المرخص”، وهي الذريعة التي طالما استخدمها الكيان الإسرائيلي لتبرير جرائمه ضد الفلسطينيين في الداخل المحتل منذ عام 1948.
مشاهد الاستفزاز والهيمنة الميدانية
الفيديو الذي وثّقه ناشطون فلسطينيون وإسرائيليون أثار موجة غضب واسعة، إذ بدا بن غفير في هيئة “الحاكم العسكري” الذي يتعامل مع السكان العرب كأنهم أعداء في أرض محتلة.
في أحد المقاطع، جادل الوزير أحد السكان قائلاً له بلهجة متعالية: "اذهب وابنِ في مكان آخر، هنا أرض إسرائيل، ولن نسمح بالبناء غير القانوني". ردّ المواطن بحسرة وغضب على ما يجري: "هذه أرضنا منذ مئات السنين، قبل أن تأتي أنت ومن معك".
لكن الوزير المتطرف، الذي لطالما دعا علنًا إلى طرد العرب وهدم منازلهم، تجاهل كلمات الرجل واستمر في توجيه أوامره لعناصر الشرطة بتسجيل الأسماء وتثبيت الإخطارات على جدران المنازل.
يقول ناشط من النقب إن المشهد “كان أشبه باستعراض للقوة والتسلط”، فبن غفير لم يأتِ بصفته وزيرًا فحسب، بل كزعيم أيديولوجي متعصب يريد أن يبعث برسالة سياسية: لا مكان للعرب في أرض النقب.
حملة “نسر الجنوب 3”.. غطاء قانوني للتهجير
ذكرت صحيفة "إسرائيل هيوم" أن الحملة نُفذت بمشاركة سلطة أراضي إسرائيل، وتركّزت على “التجمعات البدوية غير المعترف بها” في النقب، حيث جرى توزيع مئات أوامر الهدم والإخلاء.
وبحسب الصحيفة، فإن بن غفير زار المنطقة خلال العملية، وأعلن دعمه لما وصفه بـ“تعزيز سيادة القانون”، في إشارة واضحة إلى أنه يعتبر الوجود العربي نفسه خارجًا عن القانون.
لكن تقارير محلية أشارت إلى أن الهدف الحقيقي للحملة هو توسيع نطاق السيطرة الإسرائيلية على الأراضي البدوية وتحويلها إلى مشاريع استيطانية وزراعية لصالح اليهود فقط.
ففي الوقت الذي تُمنح فيه المستوطنات الزراعية اليهودية الجديدة تراخيص عاجلة وتُمدّ بالكهرباء والماء والطرق خلال أسابيع، يُمنع البدو من بناء منزل أو حتى خيمة دون ترخيص يستحيل الحصول عليه.
ويقول مركز عدالة لحقوق الأقليات العربية في إسرائيل إن السلطات الإسرائيلية ترفض منذ عقود الاعتراف بأكثر من 35 قرية بدوية في النقب، يعيش فيها أكثر من 100 ألف فلسطيني.
هؤلاء السكان، الذين يُعدّون من أفقر الشرائح داخل الخط الأخضر، يعيشون في ظروف قاسية دون خدمات أساسية، ويُعتبر وجودهم “مؤقتًا” بنظر الدولة التي تسعى إلى “تركيزهم” في بلدات صغيرة أشبه بالمخيمات، تمهيدًا لانتزاع أراضيهم التاريخية.
ارتفاع قياسي في أوامر الهدم.. 400% منذ بداية العام
وبحسب موقع "واي نت" العبري، شهدت أوامر الهدم في منطقة النقب ارتفاعًا غير مسبوق وصل إلى 400% منذ مطلع العام الجاري، وهو رقم يعكس تصاعدًا خطيرًا في سياسة التطهير العرقي الممنهجة ضد العرب داخل الخط الأخضر.
منظمات حقوقية إسرائيلية، بينها “بيتسيلم” و“شومريم”، وصفت هذه الحملة بأنها تمييزية بامتياز، مؤكدة أن القانون الإسرائيلي نفسه يُستخدم أداةً للعنصرية، إذ يُطبَّق بصرامة على العرب ويُعطَّل لصالح اليهود.
وقالت جمعية حقوق المواطن في بيانها الأخير إن “الدولة تسعى عبر سياسة الهدم إلى دفع البدو قسرًا نحو الرحيل، من خلال تجريدهم من أبسط مقومات الحياة”. وأضاف البيان أن “ما يجري في النقب ليس مسألة تنظيم بناء، بل مشروع سياسي لإعادة رسم الخريطة الديمغرافية بما يضمن أغلبية يهودية مطلقة”.
بن غفير.. الوجه العاري للتطرف الإسرائيلي
إيتمار بن غفير ليس مجرد وزير عابر في حكومة الاحتلال، بل هو نتاج مباشر لعقود من التحريض القومي والديني.
ينحدر من مدرسة الحاخام المتطرف مئير كهانا، الذي دعا إلى طرد العرب من فلسطين واعتبرهم “غرباء وأعداء”.
وخلال مسيرته السياسية، لم يُخفِ بن غفير دعمه للمستوطنين الذين يعتدون على الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، بل كان هو نفسه يشارك في اقتحامات المسجد الأقصى ويصفها بـ“إظهار السيادة اليهودية على الجبل المقدس”.
وجوده على رأس وزارة الأمن القومي أعطاه صلاحيات واسعة على الشرطة وحرس الحدود، ما سمح له بتحويل هذه الأجهزة إلى أداة قمعية تنفذ رؤيته الأيديولوجية المتطرفة.
ومنذ توليه منصبه في حكومة نتنياهو الحالية، تصاعدت عمليات القمع ضد العرب داخل الخط الأخضر، وازدادت الاعتقالات السياسية والمداهمات في القدس والنقب، بالتوازي مع تصعيد العدوان الدموي على غزة والضفة الغربية.
يرى مراقبون أن بن غفير يسعى عبر هذه التحركات الميدانية إلى تعزيز صورته أمام جمهوره المتطرف الذي يطالبه بمزيد من التشدد ضد العرب، خصوصًا مع تراجع شعبيته مؤخرًا بسبب الخلافات داخل الحكومة اليمينية حول إدارة الحرب على غزة.
النقب.. ساحة التهجير المنسية
منطقة النقب، التي تشكل نحو 60% من مساحة فلسطين التاريخية جنوبًا، تمثل أحد أهم أهداف المشروع الاستيطاني الإسرائيلي منذ قيام الكيان عام 1948.
فقد جرى تهجير عشرات آلاف العرب البدو من أراضيهم الأصلية إلى مناطق محصورة، بينما أقيمت على أنقاض قراهم مدن ومزارع يهودية.
ورغم أن كثيرًا من هؤلاء السكان يحملون الجنسية الإسرائيلية، إلا أنهم يعيشون بلا اعتراف رسمي بوجودهم.
ففي نظر السلطات، هم “متسللون” يعيشون في “تجمعات غير قانونية”، بينما في الحقيقة هم أصحاب الأرض الشرعيون الذين ورثوها أبًا عن جد قبل قيام الكيان بقرون.
تقول الناشطة أمينة أبو القيعان من قرية أم الحيران المهددة بالهدم إن “ما يقوم به بن غفير هو استمرار لسياسة اقتلاع العرب من النقب، بدأت منذ قيام الدولة ولم تتوقف يومًا”.
وأضافت في تصريحات صحفية: “يريدون أن يمحوا وجودنا بالكامل، ويستبدلوا بيوتنا بمزارع استيطانية، حتى الصحراء لم تسلم منهم”.
سياسة الهدم كأداة استعمارية
منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي، استخدمت السلطات سياسة الهدم كأداة لترهيب السكان العرب وإجبارهم على مغادرة أراضيهم.
في القدس، تُهدم مئات المنازل سنويًا بحجة عدم الترخيص، رغم أن سلطات الاحتلال ترفض إصدار التراخيص للفلسطينيين أصلًا
وفي الضفة الغربية، تُستخدم الجرافات العسكرية لهدم البيوت والمساجد والمدارس في المناطق المصنفة (ج)، بينما في النقب، تتم العملية تحت غطاء “القانون الإسرائيلي الداخلي”.
لكن جوهر الفعل واحد: تفريغ الأرض من سكانها الأصليين لصالح التوسع الاستيطاني اليهودي.
يقول المحلل السياسي جمال زحالقة إن “ما يفعله بن غفير اليوم في النقب هو تنفيذ مباشر لعقيدة ‘إسرائيل الكبرى’ التي لا تعترف بوجود أي كيان عربي داخلها”.
وأضاف: “الحديث عن تطبيق القانون كذب مكشوف، لأن هذا القانون نفسه صُمم لإقصاء العرب. بن غفير لا يطبّق القانون، بل يطبّق التوراة العنصرية كما يراها”.
ردود فعل غاضبة ومطالب بالتحرك الدولي
أثارت المشاهد المتداولة ردود فعل واسعة في الداخل الفلسطيني وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث اعتبر ناشطون أن ما جرى “استعراض فاشي” يُظهر مدى تغوّل العنصرية داخل مؤسسات الكيان.
ودعا أعضاء في لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية إلى تنظيم احتجاجات في النقب والقدس رفضًا لسياسة الهدم، مطالبين المجتمع الدولي بالتدخل العاجل لحماية السكان من عمليات التهجير القسري.
كما طالبت منظمات حقوقية دولية مثل “هيومن رايتس ووتش” و“العفو الدولية” سابقًا بوقف سياسات الهدم التي وصفتها بأنها “انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني”، مؤكدين أن الكيان الإسرائيلي يستخدم هذه السياسة ضمن منظومة فصل عنصري ممنهجة ضد العرب.
غير أن الحكومات الغربية، التي تملأ الدنيا ضجيجًا بشعارات “حقوق الإنسان” في أماكن أخرى، تلتزم صمتًا مريبًا أمام الجرائم اليومية التي تُرتكب بحق الفلسطينيين، سواء في غزة أو الضفة أو داخل الخط الأخضر.
النقب مرآة لوجه الكيان الحقيقي
ما حدث في النقب ليس حادثة معزولة، بل جزء من صورة أوسع ترسمها حكومة إسرائيلية تتبنى خطابًا عنصريًا يرى في الفلسطيني “مشكلة ديمغرافية” يجب التخلص منها.
بن غفير، بزيه الرسمي وتصرفاته الاستفزازية، جسّد تمامًا عقلية الكيان الإسرائيلي التي تبني “قانونها” على إنكار وجود الآخر، و“سيادتها” على أنقاض منازل الفقراء والمهمشين.
النقب اليوم يقف شاهدًا على استمرار المشروع الصهيوني بأدوات جديدة: الهدم بدل القصف، والتهجير الإداري بدل المجازر.
ورغم القمع والتهديد، يواصل العرب البدو التشبث بأرضهم، حاملين إرثًا من الصمود يمتد من النكبة إلى اليوم، مؤمنين بأن من يزرع في الصحراء لا يمكن أن يُقتلع بقرار من وزير متطرف أو حملة عسكرية عابرة.
فالهدم قد يُسقط جدارًا، لكنه لا يهدم الانتماء.
والكيان الإسرائيلي، مهما تذرّع بالقانون، سيبقى عاجزًا عن إخفاء حقيقته: نظام استعماري عنصري، يخاف من خيمة بدوي أكثر مما يخاف من سلاح المقاومة.
