الوقت- إن قطار السلام بين الحكومة التركية وحزب العمال الکردستاني، الذي دبت فيه الروح بعد سنين عجاف من العنف والانسداد، وبدت له تباشير الأمل، بات اليوم يترنح تحت وطأة الشكوك وتتقاذفه أمواج التحديات العميقة، فبعد أن لاح في الأفق انحلال الحزب بإشارة من عبد الله أوجلان، وتلا ذلك جنوح قادته لتعليق الكفاح المسلح، استبشر القوم بعهد جديد يطوي صفحة الصدام بين أنقرة وهذا التنظيم، بيد أن ظلال الماضي الثقيلة، ومنطق النزاع الأعرج، أبيا إلا أن يقطعا الطريق على كل خطوة واثقة نحو الأمام.
وفي أحدث النذر، وأشدّها وقعاً، انبرى قادة الحزب الكبار بلهجة قاطعة، جاعلين استمرار أي تفاوض رهناً بشرطين جوهريين: أولهما، إطلاق سراح عبد الله أوجلان، ذلك الزعيم الروحي والمؤسس القابع خلف القضبان، دون قيد أو شرط؛ وثانيهما، الاعتراف الدستوري الصريح بالهوية السياسية والحقوقية للأكراد في تركيا.
وقد صرح القيادي الذي سمي بـ “ملازجيرت”، من حصنه في جبال قنديل شمالي العراق، لوكالة الأنباء الفرنسية قائلاً: "لقد نفذنا كل ما خطه الزعيم آبو (أوجلان) من خطوات… ولن يصدر عنا بعد اليوم حراك"، وأردف بلسان الواثق: "من الآن فصاعداً، نحن في انتظار ما ستجود به الحكومة التركية، والكرة باتت في ملعبهم".
ولخّص مطالب جماعته في أمرين لا ثالث لهما: “أولاً، حرية الزعيم آبو… فبدون هذا الشرط، لن يكتب لهذه المسيرة النجاح، وثانياً، الاعتراف بالشعب الكردي في تركيا عبر نصوص الدستور"، وعلى المنوال ذاته، نسج “سردا مظلوم جبار”، القيادي الآخر في الحزب، مؤكداً للوكالة عينها: “ما دام زعيمنا يقبع في السجن، فلن ينعم الشعب الكردي بالحرية، ونحن كفدائيين لن نستشعر طعم الانعتاق"، مضيفاً: “إن درب حريتنا يمر حتمًا عبر حرية قائدنا".
إن هذه المواقف الصارمة ليست مجرد مساومات عابرة، بل هي إنذار أخير يضع عملية السلام الغضة على شفا التوقف التام، أو ربما الارتكاس مجدداً في حمأة العنف والدماء.
مسار المفاوضات.. انحدار نحو الهاوية
شرعت أنقرة في مفاوضات غير مباشرة مع الحزب أواخر العام المنصرم، وإثر ذلك، دعا أوجلان في فبراير (شباط) الماضي أنصاره لإلقاء السلاح وانتهاج السبل الديمقراطية لنيل المطالب، واستجابةً لنداء الزعيم السبعيني، أوقف الحزب رسمياً رحى الحرب ضد تركيا منذ نحو ثمانية أشهر، وشرع في سحب قواته رويداً رويداً نحو شمال العراق، وفي مشهدٍ رمزي، أقدم ثلاثون من المقاتلين هناك على إحراق أسلحتهم، عربون وفاء بعهد السلام.
غير أن هذا التقدم المتسارع، سرعان ما كبحه جماح الجمود في الأسابيع الأخيرة، وبالنظر إلى تجارب الماضي المريرة، وآخرها عام 2015، دبّ القلق في أوصال المسؤولين الأتراك، فهرعوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وفي هذا السياق، التقى ممثلو لجنة برلمانية خاصة، معنية بمتابعة ملف السلام، بأوجلان مطلع هذا الأسبوع، وقد شكلت هذه اللجنة العابرة للأحزاب لتمهيد الأرض للصلح، ووضع إطار قانوني لدمج الحزب ومقاتليه في الحياة السياسية.
وحسب بيان صدر يوم الاثنين، فقد تمخض اللقاء عن “نتائج إيجابية تصب في تعزيز اللحمة الاجتماعية، والإخاء، ودفع عجلة السلام بمنظور إقليمي”، وأشار البيان إلى أن الوفد تلقى “شروحات ضافية” من أوجلان خلال اللقاء الذي استمر خمس ساعات في جزيرة إمرالي النائية قرب إسطنبول.
ورغم أن حكومة أردوغان تمني النفس بأن يظل باب السلام مشرعاً بفضل توجيهات “آبو” ومواعظه السياسية، وأن يتم اجتياز ما تبقى من الطريق بأقل الأضرار حتى وضع السلاح، إلا أن الواقع يشي بأن مطالب قادة الحزب تتجاوز حرية أوجلان لتلامس استعادة حقوق الأكراد، وهو ما يتطلب في نظرهم إصلاحات دستورية وهيكلية عميقة.
والحق أن قضية السلام هنا تتشابك فيها مسائل الهوية والثقافة وحقوق الأقليات (كاللغة) مع هواجس الأمن القومي (مكافحة الإرهاب)، ولذا فإن إيجاد ترياق يوازن بين طموحات الكرد وسيادة الدولة التركية، يظل هو المعضلة المستعصية، إن جذور الصراع مع حزب العمال تضرب عميقاً في تربة التوتر التاريخي بين تركيا والأقلية الكردية، وهو توتر يمتد لقرون خلت، نابعاً من وضع الأكراد كأقلية سواء في كنف السلطنة العثمانية أو في ظل الجمهورية التركية.
وقد تجلت بارقة أمل للحكم الذاتي إبان انكسار العثمانيين في الحرب العظمى الأولى، ولوحت معاهدة سيفر (1920) بوعود سرعان ما تبخرت كسراب بقيعة، تلك المعاهدة التي رعاها الحلفاء، وعدت بدولة مستقلة للأکراد تضمّ أجزاءً من تركيا وسوريا والعراق وإيران، لكن القوميين بقيادة مصطفى كمال أتاتورك وأدوا هذا الحلم، وذادوا عن حياض بلادهم، ليتوج نصرهم بمعاهدة لوزان في يوليو 1923، التي رسخت سيادة تركيا وقبرت حلم الدولة الكردية.
لقد منح انتصار أتاتورك له السطوة لفرض سياسات “التتريك”، الرامية لصهر الأعراق في بوتقة واحدة، فغدت التركية اللغة الوحيدة في المدارس والدواوين، وحُظرت الكردية، ما أجّج نار الغضب في صدور الأكراد، وأشعل فتيل التمردات المتعاقبة.
أفضت هذه السياسات الممنهجة إلى بزوغ حركات مقاومة، مهدت الطريق بعد انقلاب 1971 لظهور حزب العمال الكردستاني كقوة راديكالية، أسّسه الطالب الناشط عبد الله أوجلان عام 1978، متخذاً من الماركسية اللينينية عقيدةً، ومن الكفاح ضد ما أسماه “استعمار الدولة التركية” نهجاً، وسرعان ما استقطب الحزب الأنصار، وتوسعت رقعة نفوذه، جانحاً نحو العنف والإرهاب لتحقيق مآربه، ما شكّل تهديداً جسيماً للأمن القومي التركي، ولا سيما بعد تصاعد عملياته منذ عام 1984، والتي شملت الهجمات المسلحة والتفجيرات، والضلوع في تجارة المخدرات لتمويل أنشطته.
لقد دارت رحى حرب ضروس، وكان من أبرز فصولها “عملية المطرقة” عام 1997، حيث توغلت القوات التركية في شمال العراق، موقعةً خسائر فادحة في صفوف الحزب، وشكّل اعتقال أوجلان عام 1999 في كينيا منعطفاً حاسماً، إذ أودع سجناً في جزيرة وسط بحر مرمرة. ورغم الهدنة المؤقتة التي تلت اعتقاله، إلا أن جذوة الصراع لم تنطفئ.
إخفاق مبادرة أردوغان للسلام
إن التاريخ حافل بالوعود المنكوثة والمفاوضات العاثرة، ما جعل الثقة بين الطرفين أثراً بعد عين، مع مطلع الألفية، ورغم الهدنات المتقطعة، استمر النزاع، ومع صعود حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، لاح في الأفق نهج مغاير، بدأ بإصلاحات خففت القيود الثقافية، وبلغ ذروته بمسار سلام جديد بين 2012 و2015، وفي 2013، وعقب مفاوضات سرية، التقى أردوغان بأوجلان، ما أثمر دعوةً لوقف إطلاق النار وانسحاب المقاتلين. لكن هذه المبادرة، كسابقاتها، لم تعمر طويلاً، فاشتعلت الحرب مجدداً وبضراوة أشدّ بحلول 2015، وحصدت العمليات العسكرية أرواح الآلاف، ليمتد لهيب الصراع إلى سوريا والعراق، متشابكاً مع أطماع تركيا الإقليمية، ما زاد طريق السلام وعورةً.
أبعاد الصراع العابرة للحدود وتشابك الخيوط
وما يزيد الطين بلةً في مسار السلام الحالي، تلك الأبعاد الخارجية للصراع، فالحزب لم يعد حبيس الحدود، بل باتت وشائجه مع أكراد سوريا والعراق تجعل أي حل رهيناً بتطورات تلك الدول، ما يضاعف التعقيد ولا يخدم السلام.
ترى تركيا في “وحدات حماية الشعب” الكردية السورية، العمود الفقري لـ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، امتداداً فكرياً لحزب العمال، وعقب دعوة أوجلان لنبذ السلاح، زعمت أنقرة أن الأمر يشمل “قسد”، وهو ما دحضه قائدها مظلوم عبدي، مؤكداً انفصال المسارين.
لقد راهنت تركيا طويلاً على تغيير النظام في دمشق، وصعود حلفائها بقيادة الجولاني، للضغط على الأكراد وحل كياناتهم العسكرية، لكن الآمال تبددت، ويبدو أن أنصار أردوغان يطمعون في دعم الأكراد لرئاسته مدى الحياة مقابل نزع سلاحهم والالتزام بمركزية الدولة، لكن حتى الاتفاقات التي رعتها أمريكا لم تبدد مخاوف أنقرة.
واليوم، وبعد تعثر اتفاق مارس بين دمشق و"قسد"، ورفض الأكراد لمسودة الدستور السوري التي رأوا فيها إعادةً لإنتاج البعث، تبخرت أحلام أنقرة. ورد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، بتهديد مبطن للأكراد بمصير دروز سوريا، لكن التهديد أتى بنتائج عكسية، إذ زاد من تمسك الأكراد بسلاحهم.
في ظل هذا المشهد القاتم، يبقى التساؤل عما إذا كانت مطالب الحكم الذاتي والحقوق الثقافية ستجد لها مكاناً في أجندة المنطقة، أمراً تلوكه الألسن وتتناقله وسائل الإعلام، شاهداً على تعقيد الأزمة واستعصاء الحل الشامل لهذا الجرح النازف.
