الوقت- تشهد الولايات المتحدة هذا العام واحدة من أضعف مواسم الجمعة السوداء (Black Friday) منذ أكثر من عقد، في ظل مؤشرات اقتصادية واجتماعية تعيد رسم المشهد الاستهلاكي الأمريكي، فحالة الازدحام المعهودة أمام متاجر التجزئة الكبرى، من «وولمارت» و«تارغت» إلى «بست باي»، تراجعت بصورة لافتة، بينما بدا كثير من المراكز التجارية شبه خالية، خلافًا للصور النمطية التي تُعرف بها هذه المناسبة، ومع أن الجمعة السوداء عادةً ما تمثل اختبارًا لنبض الاقتصاد الأمريكي، فإن نتائج هذا العام جاءت محمّلة برسائل واضحة: المستهلك الأمريكي مرهق، القوة الشرائية تتآكل، والفقر يتسع، بينما سياسات مالية ترتبط بعهد دونالد ترامب لا تزال تلقي بظلالها الثقيلة على الاقتصاد الأمريكي.
تراجع ملحوظ في الإقبال… أرقام تعكس الواقع
لعقود طويلة، كانت الجمعة السوداء بمثابة يوم «الانفجار الاستهلاكي» في الولايات المتحدة، حيث ينتظر ملايين الأمريكيين التخفيضات ليشتروا الأجهزة الإلكترونية والملابس ولوازم المنزل، إلا أنّ ملامح هذا العام تختلف جذريًا عن الأعوام السابقة لعدة أسباب:
- ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق نتيجة التضخم المتراكم خلال السنوات الثلاث الماضية.
- تراجع القوة الشرائية بسبب ركود الأجور مقارنة بوتيرة ارتفاع الأسعار.
- العجز المالي المتصاعد للأسر مع وصول ديون بطاقات الائتمان إلى مستويات قياسية.
- القلق الاقتصادي الذي يحدّ من الميل للاستهلاك ويزيد من الميل للادخار أو تقليل الإنفاق على السلع غير الأساسية.
ورغم أن الشركات تحاول جذب الزبائن بعروض مختلفة، فإن الحركة داخل المتاجر الكبرى كانت هذا العام «باهتة» على نحو غير مسبوق، صور انتشرت من داخل «وولمارت» أظهرت ممرات شبه خالية، بضاعة لم يتم لمسها، وعربات تسوّق مركونة في الزوايا، في مشهد يذكّر بأزمة ثقة متنامية بين المستهلك الأمريكي والاقتصاد الذي يعيش فيه.
قفل البضائع… ظاهرة جديدة تعبّر عن تحولات عميقة
واحدة من أكثر الظواهر المثيرة للانتباه هذا العام هي الانتشار الواسع لظاهرة قفل البضائع داخل خزائن زجاجية داخل المتاجر، ما كان يُستخدم سابقًا فقط للسلع الثمينة أصبح اليوم يشمل السلع العادية: معجون الأسنان، الحفاظات، الشامبو، وحتى بعض أنواع الطعام.
هذا القفل ليس إجراءً تجميليًا، بل رد فعل مباشر على الارتفاع الحاد في معدلات السرقة الصغيرة داخل متاجر التجزئة، وهو مؤشر خطير على التردي الاجتماعي والاقتصادي.
فالناس لا يسرقون ترفًا، بل لأن فئات واسعة باتت غير قادرة على توفير احتياجاتها اليومية.
وتشير تقارير اقتصادية أمريكية إلى أن موجة السرقات الصغيرة ليست مجرد مشكلة أمنية، بل علامة على أنّ فقرًا مستترًا يتنامى في المدن الأمريكية، يترافق مع ركود اقتصادي وأزمات ديون شخصية خانقة.
ديون بطاقات الائتمان… كابوس يخنق المستهلك الأمريكي
من بين أكثر العوامل تأثيرًا في تراجع الإقبال على الجمعة السوداء، ارتفاع ديون بطاقات الائتمان التي تجاوزت هذا العام تريليون دولار، وهي أعلى مستوى في تاريخ البلاد.
ومع رفع أسعار الفائدة خلال العامين الماضيين، ارتفعت الفائدة على بطاقات الائتمان إلى أكثر من 20% في المتوسط، ما يعني أن ملايين الأسر الأمريكية أصبحت غارقة في دوامة لا تنتهي من الأقساط والفوائد المتراكمة.
وفي ظل هذه الأزمة، لم يعد الأمريكي يذهب إلى الجمعة السوداء «باحثًا عن أفضل صفقة»، بل أصبح يفضّل الهروب من الإنفاق لتجنب الفشل في تسديد التزامات مالية أساسية مثل الإيجار، التأمين الصحي، أو أقساط السيارة.
مقارنة بالأعوام السابقة: أين اختفت الحماسة؟
في السنوات التي سبقت جائحة كورونا، كانت الجمعة السوداء تشبه «عيدًا وطنيًا استهلاكيًا». طوابير طويلة، خيام على الأرصفة قبل فتح المتاجر، وملايين الصفقات خلال ساعات قليلة.
لكن التحولات الاقتصادية بعد الجائحة، والانقسامات السياسية، والتضخم، وتراجع الثقة في المستقبل الاقتصادي، كلها أدت إلى تغيير جذري في سلوك المستهلك.
- في 2018 و2019 سجّلت المتاجر الأميركية أرقام مبيعات قياسية.
- في 2020 تأثرت الجمعة السوداء بالإغلاق، لكن الاستهلاك الإلكتروني ازدهر.
- في 2021 و2022 عاد الإقبال تدريجيًا، لكن الأسعار المرتفعة جعلت الناس أكثر حذرًا.
- أما في 2023 و2024 و2025، فقد أصبحت الجمعة السوداء مرآة تعكس أزمة استهلاك حقيقية.
المفارقة أن العروض التجارية هذا العام ربما كانت أقوى من الأعوام السابقة، لكن الوضع المالي للمستهلك أسوأ، خصوصًا مع ارتفاع إيجارات المنازل، فواتير الطاقة، أسعار الغذاء، وتكاليف التأمين الصحي.
ترامب وسياساته المالية… آثار لا تزال تضرب الاقتصاد
رغم أن الإدارة الحالية تحاول ضبط التضخم واستعادة الاستقرار، إلا أن كثيرًا من المحللين يربطون جزءًا كبيرًا من الأزمة الاستهلاكية الحالية بـ السياسات المالية والضريبية التي أقرّها الرئيس دونالد ترامب.
أبرز الانتقادات تتمثل في:
تخفيضات ضريبية لمصلحة الأغنياء والشركات الكبرى
قانون الضرائب الذي وقّعه ترامب عام 2017 منح الشركات العملاقة وكبار أصحاب الثروات تخفيضات ضخمة، بينما لم يستفد المواطن العادي إلا بنسب قليلة جدًا، هذه السياسة أدت إلى:
- زيادة الفوارق الطبقية.
- ارتفاع الدين القومي الأمريكي.
- نقص إيرادات الحكومة الفيدرالية التي كان يمكن استخدامها لدعم الطبقة المتوسطة.
تعزيز سياسات السوق الحرة دون حماية كافية للطبقات الفقيرة
اعتمد ترامب خطابًا يقوم على «عظمة الاقتصاد» عبر تحرير الأسواق، لكن الواقع كشف أن ملايين الأمريكيين لم يشعروا بأي تحسن وعندما ضربت جائحة كورونا، وجد الأمريكيون أنفسهم بلا شبكات حماية اجتماعية قوية وفي الفترة الأخيرة فرض ترامب ضرائب كبيرة على استيراد السلع من باقي الدول ما تسبب في ارتفاع جنوني في أسعار السلع داخل الولايات المتحدة الأمريكية وانخفضت القوة الشرائية للمواطن الأمريكي بشكل ملحوظ.
إجراءات اقتصادية قصيرة الأمد
تسببت سياسات ترامب في تشجيع الاقتراض والاستهلاك المفرط، دون إصلاح جذري للمشكلات البنيوية مثل:
- الرعاية الصحية المكلفة.
- نقص السكن الميسور.
- هشاشة الوظائف منخفضة الأجر.
وبالتالي، ما يظهر اليوم في الجمعة السوداء من تراجع في الاستهلاك واتساع الفقر ليس مفاجئًا؛ بل هو نتيجة تراكمات بدأت منذ سنوات، وجزءٌ كبير منها ارتبط بالقرارات المالية لإدارة ترامب.
الفقر الأمريكي… حقيقة لا تستطيع الجمعة السوداء إخفاءها
من دون مبالغة، يعيش في الولايات المتحدة اليوم أحد أعلى معدلات الفقر بين الدول المتقدمة.
ووفق تقارير محلية، فإن:
- أكثر من 40 مليون أمريكي تحت خط الفقر.
- ملايين الأطفال يعتمدون على المساعدات الغذائية الحكومية.
- آلاف المتاجر الصغيرة أغلقت بسبب ارتفاع التكاليف.
- مدن كاملة تعاني من التشرد والإدمان وانعدام السكن الميسور.
ولذلك، حين يرى الناس أن «وولمارت» أصبح يقفل السلع اليومية داخل خزائن خشية السرقة، فإن الأمر لا يتعلق بالأمن فقط، بل بـ تآكل الطبقة الوسطى الأمريكية.
فالمواطن الذي كان يشتري في الجمعة السوداء التلفزيونات الذكية والمجوهرات، أصبح اليوم يبحث عن تخفيضات في الطعام والمنظفات.
الجمعة السوداء ومعنى التراجع… هل نحن أمام تحوّل تاريخي؟
يرى كثير من الخبراء أن هذا التراجع ليس مجرد تباطؤ موسمي، بل هو تغيير بنيوي عميق في بنية السوق الأمريكية.
هناك أسباب عديدة تؤكد ذلك:
التحول نحو نمط استهلاك أكثر حذرًا
أصبح الأمريكي يفضل شراء ما يحتاجه فعلاً، وليس ما تروج له الشركات.
تراجع الثقة في المستقبل الاقتصادي
عدم الاستقرار السياسي، المخاوف من الركود، وارتفاع الديون يجعل المستهلك مترددًا.
ضغوط الحياة اليومية أقوى من عروض الجمعة السوداء
- تكلفة السكن
- تكلفة التأمين الصحي
- تكلفة التعليم
- تكلفة الغذاء
كلها ترتفع بوتيرة أسرع من دخل المواطن.
زيادة الاعتماد على التسوق الإلكتروني
حتى هذه التحولات لم تُترجم إلى مبيعات ضخمة، لأن المستهلك ببساطة لا يملك القدرة الشرائية نفسها.
جمعة سوداء… تعبّر عن "أمريكا المتعبة"
الجمعة السوداء هذا العام لم تكن مجرد مناسبة تجارية، بل كانت رسمًا بيانيًا لاقتصاد يتباطأ، ومجتمع يزداد فقرًا، وسياسات مالية فاشلة تركت جروحًا عميقة.
فالمشهد الذي بدا داخل «وولمارت» والمتاجر الكبرى هو انعكاس مباشر لحال المواطن الأميركي الذي يواجه أسعارًا مرتفعة، ديونًا خانقة، وقوة شرائية منهارة.
ومع تنامي الجدل حول السياسات الاقتصادية، يبدو مستقبل الاستهلاك في الولايات المتحدة مرتبطًا بمدى استعادة الطبقة الوسطى لدورها، وتوجيه السياسات المالية لخدمة المجتمع بدلًا من خدمة الشركات الكبرى.
وحتى يحدث ذلك، ستظل الجمعة السوداء بلا بريق، وستظل المتاجر تنتظر زبائن لم يعودوا قادرين على الشراء كما في الماضي.
