الوقت- أثار تصريح وزير الطاقة الإسرائيلي حالة واسعة من الجدل السياسي والإعلامي، بعدما أكد أنّ بلاده مستعدة للتخلّي عن مسار التطبيع مع الدول العربية في حال كان الثمن هو القبول بإقامة دولة فلسطينية قد تُعدّ وفق رأيه تهديداً لأمن "إسرائيل"، هذا التصريح جاء في وقت تشهد فيه المنطقة نقاشات متجددة حول إعادة صياغة العلاقات الإقليمية وعودة الحديث عن مبادرات سلام جديدة، وخصوصاً مع مؤشرات على حوارات غير معلنة بين "إسرائيل" وعدد من الدول العربية حول مستقبل العلاقات.
الوزير شدّد على أن القبول بقيام دولة فلسطينية ضمن سياق أي اتفاق تطبيع ليس وارداً إذا كان يعني فرض واقع أمني وسياسي لا تريده "إسرائيل"، ورغم أن الموقف يعكس جانباً من التوجهات داخل الحكومة الإسرائيلية الحالية، إلا أنّ طريقة طرحه وصياغته خلقت ردود فعل واسعة، ودفعت أطرافاً إقليمية إلى التعليق على ما اعتبروه لغة تعبر عن أزمة داخلية متفاقمة.
رسالة موجّهة للداخل الإسرائيلي قبل الخارج
يمكن قراءة تصريح الوزير على أنه موجّه بالدرجة الأولى إلى الجمهور الإسرائيلي الداخلي، في ظل التوترات القائمة داخل الحكومة والضغوط السياسية التي تتعرض لها من أطراف اليمين المتطرف، ففكرة إقامة دولة فلسطينية تُعدّ من أكثر القضايا إشكالية داخل الساحة السياسية الإسرائيلية، حيث ينقسم الرأي العام والأحزاب حولها بشكل حاد، وعليه، فإن تأكيد الوزير على رفض التضحية بالأمن لصالح التطبيع هو محاولة لإعادة الاصطفاف خلف خطاب سياسي تقليدي يجد صداه لدى قواعد اليمين.
هذا الموقف لا يعكس فقط توجّهًا لدى الوزير، بل يأتي في إطار استراتيجية أوسع للحكومة الحالية، التي تعتمد على رسائل سياسية واضحة تجاه أي مبادرات تتعلق بالمسار السياسي مع الفلسطينيين، ومن هنا يبدو أن التصريح يمثّل انعكاساً لرغبة الحكومة في تثبيت خطوطها الحمراء أمام أي ضغوط دولية أو إقليمية.
السياق الإقليمي: تطبيع مشروط ودبلوماسية متغيرة
إعادة طرح مسألة التطبيع العربي مع "إسرائيل" ارتبطت خلال الفترة الأخيرة بعودة النشاط الدبلوماسي في المنطقة، ورغبة عدد من الدول في إعادة بناء معادلات سياسية جديدة بعد سنوات من التوتر، غير أن العديد من هذه الدول ترى أن أي اتفاق مستدام مع "إسرائيل" لا يمكن أن يكون معزولاً عن القضية الفلسطينية، وأن شرط قيام دولة فلسطينية أو على الأقل وجود مسار واضح نحوها هو جزء أساسي من التفاوض.
وهنا يتضح سبب حساسية تصريح الوزير، إذ يلامس مباشرة جوهر المقايضات السياسية في أي عملية تطبيع محتملة، فبعض الأطراف العربية كانت قد ربطت علناً أو ضمنياً بين التطبيع وبين التزام إسرائيلي بخطوات سياسية ملموسة تجاه الفلسطينيين، ولذلك، فإن الإعلان عن رفض هذا الشرط يمثّل رسالة مضادة قد تؤثر على وتيرة الحوارات ومساراتها.
ردود عربية تنظر إلى التصريح باعتباره انعكاساً لمأزق سياسي
أحد أبرز الردود جاءت من الأردن، الذي اعتبر أنّ هذا الخطاب يعكس أزمة سياسية داخل إسرائيل، وليس رؤية استراتيجية واضحة، ويبدو أن عمّان أرادت توجيه رسالة بأنّ استمرار تجاهل الحقوق الفلسطينية لن يؤدي إلى استقرار سياسي أو أمني، وأنّ أي حديث عن تطبيع شامل لا يمكن أن يتجاوز القضية الفلسطينية.
التصريحات الأردنية تعبّر عن قلق أوسع في المنطقة من أن تكون الحكومة الإسرائيلية الحالية غير مستعدة للدخول في أي مسار سياسي حقيقي، وهو ما قد يعطّل فرص التهدئة أو بناء توافقات إقليمية جديدة، كما أن ردّ الأردن يعكس رغبة في التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية في أي معادلة مستقبلية، سواء تعلق الأمر بالتطبيع أو بالاستقرار الإقليمي.
تناقضات داخلية في "إسرائيل".. بين الأمن والسياسة
تظهر تصريحات الوزير أيضاً حالة التناقض داخل "إسرائيل" بين الخطاب الأمني والخطاب السياسي، فمن جهة، تدرك تل أبيب أن التطبيع مع الدول العربية يحمل مكاسب استراتيجية كبيرة، سواء على مستوى الردع الإقليمي أو تعزيز التحالفات الاقتصادية، ومن جهة أخرى، تجد نفسها أمام التزامات سياسية داخلية تفرض عليها التمسك بمواقف متشددة تجاه الدولة الفلسطينية.
هذه الازدواجية تجعل من الصعب على الحكومة الإسرائيلية السير بثبات في أي مسار سياسي طويل الأمد، وخصوصاً أن مكوّنات الائتلاف لا تتفق على رؤية مشتركة للملف الفلسطيني، فبينما يلوّح البعض برفض قاطع لفكرة الدولة، يدرك آخرون في المؤسسة الأمنية والعسكرية أن غياب حل سياسي على المدى البعيد قد يُنتج تحديات أمنية أكبر.
تصريح في توقيت بالغ الدقة
يمكن القول إن تصريح وزير الطاقة الإسرائيلي لم يكن مجرد رأي عابر، بل خطوة محسوبة ضمن سياق سياسي داخلي وإقليمي بالغ الحساسية، فهو يعكس مزيجاً من الاعتبارات: محاولة لكسب الجمهور الداخلي، إرسال رسائل قاسية للدول التي تربط التطبيع بالتقدم في الملف الفلسطيني، والسعي لترسيخ صورة حكومة تتمسك بثوابت معينة مهما كانت الضغوط.
لكن في المقابل، يسلّط هذا التصريح الضوء على الفجوة المتزايدة بين الرؤية الإسرائيلية الحالية وبين توقعات العديد من الدول العربية، ويطرح تساؤلات حول مستقبل أي مسار تطبيعي إذا استمر الجمود في القضية الفلسطينية.
اللحظة التي صدر فيها هذا الكلام تكشف أن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة من إعادة الترتيب السياسي، وأن أي خطوة إلى الأمام سواء في التطبيع أو في السلام لن تكون ممكنة من دون معالجة جوهر القضية الفلسطينية، التي تبقى مركز الثقل في كل معادلة إقليمية.
