الوقت- حادثة إعدام عشرات العلويين في مدينة حمص شكّلت واحدة من أكثر الجرائم دموية وإثارة للجدل في المشهد السوري الحديث، هذه الجريمة لم تأتِ من فراغ، بل ارتُكبت في سياق سيطرة ما يُعرف بـ "الحكومة المؤقتة" التابعة للجولاني والفصائل المسلحة المرتبطة به، هؤلاء الفاعلون، الذين رفعوا شعارات التحرر والعدالة، كشفوا سريعاً عن وجه آخر يقوم على الانتقام والقتل على الهوية، فالمدنيون الذين قُتلوا لم يكونوا طرفاً مباشراً في أي صراع عسكري، بل كانوا ضحايا لخطاب ثأري اعتبرهم جميعاً مجرمين لمجرد انتمائهم الطائفي، إن اختيار حمص، المدينة التي عُرفت تاريخياً بتنوعها، مسرحاً لهذه الجريمة يحمل رمزية خطيرة: إذ يسعى الجناة إلى ضرب فكرة التعايش من جذورها، وإرسال رسالة رعب مفادها بأن الهوية الطائفية وحدها تحدد مصير الإنسان.
مسؤولية حكومة الجولاني والفصائل المسلحة
لا يمكن قراءة هذه الجريمة بمعزل عن القوى التي فرضت سلطتها بعد انهيار النظام السابق في تلك المناطق، فحكومة الجولاني المؤقتة والعصابات التابعة لها هي التي أحكمت قبضتها على المشهد، ووفرت الغطاء لجرائم الإعدام الجماعي بحق العلويين، تحت ذرائع محاسبة رموز النظام، جرى تنفيذ إعدامات عشوائية، من دون محاكمات أو تحقيقات، في تجاوز صارخ لأبسط القوانين الإنسانية، هذا السلوك يفضح حقيقة المشروع الذي ترفعه هذه الجماعات: مشروع لا يؤمن بالعدالة، بل يعيد إنتاج الاستبداد بصيغة أكثر قسوة، وإذا كان النظام السابق قد ارتكب جرائم بحجة الحفاظ على السلطة، فإن هذه الفصائل تمارس جرائم مماثلة بحجة الثورة والانتقام، النتيجة واحدة: ضحايا أبرياء يدفعون ثمن صراعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
صمت المجتمع الدولي وازدواجية المعايير
ما يزيد من فداحة المأساة هو الصمت الدولي المريب، واليوم، ورغم وضوح الجرائم وعلنيتها، فإن الأصوات تكاد تختفي، هذا الصمت يُفسَّر بعدة أسباب، أبرزها إرهاق القوى الكبرى من الملف السوري، واعتبار ما يجري شأناً داخلياً لم يعد يستحق التدخل، لكنه أيضاً يعكس ازدواجية خطيرة في المعايير: فحين كان الضحايا من معارضي النظام، ارتفعت شعارات حقوق الإنسان، أما حين أصبحوا من الأقليات المستضعفة، طُوي الملف، هذا التجاهل لا يحمي أحداً، بل يمنح الجناة ضوءاً أخضر لمزيد من العنف، ويجعل العدالة مجرد شعار فارغ.
تداعيات طائفية تهدد وحدة المجتمع
القتل على الهوية الذي تمارسه جماعات الجولاني لا يقتصر على ضحايا اللحظة، بل يحمل تداعيات بعيدة المدى، استهداف العلويين بشكل جماعي يعزز الانقسام الطائفي، ويدفع الطائفة إلى الانكفاء على نفسها، وربما إلى حمل السلاح دفاعاً عن البقاء، هذا يفتح الباب لحروب انتقامية جديدة، حيث يُستهدف كل مكون حسب الظرف وموازين القوى، النتيجة الحتمية هي تفكك المجتمع السوري إلى كيانات طائفية متناحرة، وفقدان أي أفق لبناء دولة مدنية جامعة، الأخطر أن هذه السياسات تؤدي إلى تهجير واسع للأقليات، ما يفرغ سوريا من تنوعها التاريخي ويجعلها أكثر هشاشة أمام التدخلات الإقليمية والدولية، وهكذا تتحول جريمة حمص من حادثة محلية إلى إنذار شامل بمستقبل مظلم ينتظر البلاد إذا استمر هذا النهج بلا رادع.
ضرورة المساءلة قبل أي مصالحة
لا يمكن الحديث عن مصالحة وطنية أو إعادة بناء الدولة السورية من دون معالجة الجرائم التي ارتكبتها حكومة الجولاني المؤقتة والفصائل التابعة لها بحق المدنيين في حمص وغيرها، فالمصالحة لا تُبنى على النسيان أو التجاهل، بل على اعتراف صريح بالمسؤولية ومحاسبة عادلة تضمن حقوق الضحايا، إن غياب المساءلة يعني تكريس ثقافة الإفلات من العقاب، وهي الثقافة ذاتها التي سمحت للنظام السابق بارتكاب جرائمه لعقود، وإذا لم يتغير هذا الواقع، فإن أي مشروع سياسي جديد سيبقى هشّاً وقابلاً للانهيار عند أول أزمة، لذلك، يصبح من الضروري تأسيس آلية عدالة انتقالية سورية خالصة، تُعطي لكل طرف حقه وتمنع في الوقت ذاته تكرار الانتهاكات، فالتاريخ أثبت أن المجتمعات التي تجاهلت آلام ضحاياها لم تستطع أن تبني سلاماً دائماً، بينما التي واجهت ماضيها بصدق تمكنت من النهوض مجدداً.
الحاجة إلى مقاربة وطنية بديلة
إن مواجهة جرائم حكومة الجولاني والفصائل المسلحة لا يمكن أن تُترك للمجتمع الدولي فقط، وخاصة في ظل صمته، المسؤولية الأولى تقع على عاتق السوريين أنفسهم، وخصوصاً النخب المعارضة التي يجب أن تتخذ موقفاً واضحاً من هذه الانتهاكات، الصمت أو التبرير يعني الانتحار السياسي والأخلاقي، لأنه يضع المعارضة في خانة مشابهة للنظام الذي ثارت ضده، المطلوب هو خطاب وطني جامع يرفض منطق الانتقام الجماعي، ويؤكد أن العدالة تتحقق عبر المحاسبة القانونية لا الإعدامات الميدانية، كما أن التوثيق المستمر لهذه الجرائم ضرورة قصوى، لضمان ألا تُمحى الحقيقة مع مرور الوقت.
إشراك الأقليات في أي عملية سياسية مستقبلية سيكون الضمانة الوحيدة لإعادة بناء سوريا كدولة لجميع أبنائها، لا كإقطاعيات طائفية تتنازعها الميليشيات، إن جريمة حمص يجب أن تكون صدمة توقظ الضمير السوري، وتدفع الجميع لإعادة التفكير في المسار، إما أن تكون بداية لمراجعة شاملة توقف النزيف، أو تتحول إلى محطة أخرى في مسلسل دموي لا نهاية له.