الوقت- طفا اسم دونالد ترامب على صفحة الأحداث مجدداً؛ لا لإخماد نيران حرب، بل لإحياء اسم يفوح بعبق الحروب وشذاها! فالرئيس الذي يتباهى بأنه أعظم حمامة سلام في عصره، ويدَّعي أنه أحقّ من كل ذي حق بإكليل نوبل للسلام، فاجأ العالم هذه المرة بمرسوم صاعق يقضي بتبديل اسم “وزارة الدفاع” الأمريكية إلى “وزارة الحرب”.
هذا الإجراء، الذي يتراءى كسخرية مريرة تلسع القلوب، يصدر عن رجلٍ طالما كانت سياساته الخارجية - من الضغط على أوكرانيا وحلف الناتو إلى التقارب مع روسيا - محل طعنٍ وتجريح من خصومه. وكأن إخفاقه في اقتناص جائزة السلام دفعه إلى نبذ مساعيه نحو السلام، واختيار مسمى أشدّ إفصاحاً وأكثر مطابقةً لجوهر مؤسسة عسكرية تقطر سيوفها دماً!
برهن هذا القرار مرةً أخرى أن سياسات واشنطن الحربية، رغم عقود من المحاولات لتلطيف وجهها العدواني وتجميله، ما زالت تشكّل عماد قوتها وركيزة سلطانها.
في ظل تصريح بيت هيغزت وزير الدفاع الأمريكي بالأمس جهاراً عن “تعظيم القدرة الفتاكة” وإعلانه “نحن بصدد إعداد مقاتلين، لا مجرد مدافعين”، يتبادر إلى الذهن السؤال المحوري: لماذا اتُخذ هذا القرار في هذا المنعطف التاريخي تحديداً؟ وما الدوافع المستترة خلف ستائره، وما الصدى الذي أحدثه داخل الولايات المتحدة وخارج حدودها؟
بواعث ترامب؛ شعبوية، ردع أم تطبيع للنزعة الحربية؟
يرى خبراء التحليل السياسي أن ترامب يبتغي من وراء تحويل اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، تحقيق عدة مقاصد جوهرية:
مخاطبة قاعدته الانتخابية: تشدّق ترامب مراراً بـ"الصدق" في ميدان السياسة، زاعماً ضرورة التنكّب عن “الأسماء المخادعة”. ويمكن لهذا التبديل أن يُفسَّر لدى أنصاره من اليمين، خاصةً من ذوي النزعة الوطنية من البيض الأمريكيين، على أنه برهان ساطع على الشفافية والعودة إلى جادة “الواقع” المجرد.
استعراض البأس أمام المنافسين: بإماطته اللثام عن “الحرب” بدلاً من “الدفاع”، يسعى ترامب إلى انتشال النزعة الحربية من دوامة المحظورات، وإبرازها جوهراً أصيلاً في الهوية السياسية الأمريكية. ويتجلى مغزى هذا المسلك بوضوح أكبر في خضمّ المنافسة المحتدمة مع المحور الشرقي بقيادة الصين وروسيا وإيران، الذي تتضافر جهوده لتقويض الهيمنة الغربية والأحادية الأمريكية في ساحة العلاقات الدولية، والذي نجح في تشييد صروح مؤسساتية وتشكيل منظمات ذات شأن كبريكس وشنغهاي، واستقطاب دول الجنوب العالمي، مما أطلق أجراس الإنذار لواشنطن بتغير موازين القوى العالمية.
وفي هذا المناخ المضطرب، يروم ترامب مجابهة الانحدار التدريجي للهيمنة السياسية والاقتصادية (تراجع الدولار في المعاملات الدولية) والعسكرية الأمريكية، بإشهار أن أمريكا لا تهاب الحرب وأنها ستتكئ على “منطق القوة” للحفاظ على نظام القطب الأوحد.
تأكيداً لهذا المنحى، صرّح ريان زينك، النائب الجمهوري المناصر لترامب من ولاية مونتانا: “العالم يموج باضطراب. تحيط بنا قوى الشر - بوتين وكوريا الشمالية وإيران يتصدرون القائمة. يتعين على الولايات المتحدة أن تُبدي قوتها الضاربة”.
أصداء القرار في أروقة أمريكا
أثار هذا التحول موجةً من ردود الفعل المتباينة داخل الولايات المتحدة:
وصفه الديمقراطيون ومنابر الإعلام الليبرالية بأنه علامة فاضحة على تطرف ترامب، محذرين من أنه سيكرّس صورة أمريكا على الساحة الدولية كدولةٍ مؤجّجة لنيران الحروب.
في أروقة الكونغرس، لم يبدِ البعض حماسةً لهذه الخطوة، وعلت شكوى آخرين من أنها ستكبّد خزينة الوزارة ملايين الدولارات، لإجراءٍ يُعدّ في المقام الأول ذا طابع رمزي. وفي هذا السياق، قدَّر العقيد المتقاعد لاري ويلكرسون، رئيس ديوان كولن باول السابق، وزير الخارجية في عهد جورج بوش، أن هذه المبادرة ستستنزف مئات الملايين من الدولارات، مصرحاً لمجلة “ذا هيل”: “هذا المسعى باهظ التكلفة إلى حدٍ يفوق التصور”.
تُقدر تكلفة تبديل اسم مئات الوكالات التابعة للبنتاغون وجميع الشارات واللافتات - سواء داخل أمريكا أو في القواعد المنتشرة خارج حدودها - بمليارات الدولارات. ومع ذلك، حاول أركان البنتاغون وترامب نفسه التهوين من شأن هذه المخاوف.
تكتسب المعارضة في الكونغرس ثقلاً لأنها قد تُحبط مسعى ترامب. فعلى الرغم من إصداره أمراً تنفيذياً، إلا أنه ما زال بحاجة إلى مباركة الكونغرس لتغيير الاسم الرسمي لوزارة الدفاع. وقد سارع عدد من حلفاء ترامب الجمهوريين في الكونغرس، بمن فيهم السناتور ريك سكوت (فلوريدا) والسناتور مايك لي (يوتا)، بتقديم مشروع قانون لتغيير اسم وزارة الحرب. أما المحافظون المقربون من ترامب فقد هلّلوا لهذه الخطوة، قائلين إن “الدفاع” كلمة جوفاء لا روح فيها إلا عندما يرتعد أعداء أمريكا من “بأسها الحربي”.
وفي ساحة الرأي العام، رأت شريحة واسعة من الناس - خاصةً من الجيل الصاعد - هذا التبديل ضرباً من الازدراء للقيم الإنسانية، مستحضرين في أذهانهم الحروب التي استعرت نيرانها في العراق وأفغانستان دون أن تخبو.
أما المؤسسات العسكرية المتقاعدة فتباينت رؤاها: وصفها فريق منها بأنها “عودة إلى الجذور والأصول”، بينما حذّر آخرون من أنها قد تزيد من تقويض الشرعية الأخلاقية للجيش، وتعرّي سمعته.
تصريح وزير الدفاع وتناقضه مع سجل الحروب الأمريكية
يعكس تصريح وزير الدفاع الأمريكي الأخير بأن “مستوى فتك الجيش سيتصاعد”، النهج الهجومي لإدارة ترامب بجلاء. ويأتي هذا التصريح في وقتٍ سطّر فيه الجيش الأمريكي بالفعل سجلاً حافلاً بالإجرام والعنف في ساحات الحرب.
ففي العقدين المنصرمين فقط من القرن الحادي والعشرين، حصدت آلة الحرب الأمريكية أرواح مئات الآلاف من المدنيين باجتياحها أفغانستان والعراق. وقد أصرت الحكومة الأمريكية على الدوام على منع إجراء تحقيقات دولية مستقلة حول أداء جيشها في حصد أرواح المدنيين وانتهاك حقوق الإنسان، وكلما أبدى قضاة ومدّعو المحكمة الدولية في لاهاي استعدادهم للتصدي لهذه القضية، جابهتهم واشنطن بسياط التهديد والعقاب، وكان آخر فصول هذه المسرحية فرض عقوبات على أربعة من قضاة المحكمة الجنائية الدولية في يونيو 2025، لدورهم في الملاحقة القضائية للصهاينة والأمريكيين بسبب جرائمهم في غزة.
يكشف هذا الإصرار على “الفتك” أن البنتاغون لم يقتصر على تجاهل دروس الماضي فحسب، بل يتعمد إبرازها كجزء جوهري من هويته العسكرية وعقيدته القتالية.
تاريخ تغيير وزارة الحرب إلى وزارة الدفاع؛ محاولة لطمس الحقيقة
لسبر أغوار هذا التحول وإدراك مغزاه، يتعين علينا العودة إلى طيات الماضي:
عُرفت وزارة الدفاع باسم “وزارة الحرب” (Department of War) منذ تأسيسها عام 1789 حتى انقضاء الحرب العالمية الثانية عام 1947. في ذلك العام، أعاد هاري ترومان، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، صياغة هيكل النظام العسكري للبلاد بتوقيعه “قانون الأمن القومي”. بموجب هذا القانون، تم تنصيب الجيش والقوات الجوية كأذرع عسكرية مستقلة، وتم نظمها مع البحرية تحت جناح “وزير الدفاع” كمؤسسة عسكرية موحدة الأركان. وبعد عامين، أقام الكونغرس الأمريكي رسمياً صرح المنظمة الفيدرالية لوزارة الدفاع (Department of Defense) بإقرار قانون آخر.
لم يكن هذا التحول مجرد إجراء إداري، بل كان له غاية دعائية ونفسية: تزيين السياسات العدوانية، وبثّ فكرة أن أمريكا ليست سوى “حارس” للسلام وحامية حماه.
عبر صفحات التاريخ، غمس الجيش الأمريكي يديه مراراً في دماء السكان الأصليين وتدمير مجتمعاتهم، لكن اسم “وزارة الدفاع” حاول طمس هذا الماضي الأسود. من جهة أخرى، سعت أمريكا في مطلع القرن العشرين، مع تداعي قوى الاستعمار الأوروبية كبريطانيا وفرنسا وبزوغ فجر حركات الاستقلال والنضال ضد الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، إلى تصوير نفسها كقوة أخلاقية صاعدة، نصيرة لحقوق الإنسان ومدافعة عن استقلال الشعوب، لاكتساب نفوذ يمتد عبر أرجاء العالم. لذلك، اعتُبر تحويل اسم وزارة الحرب إلى الدفاع خطوةً متناغمةً مع هذه الغاية النبيلة ظاهراً، الخبيثة باطناً.
وفي العقود التالية، من الانقلاب في إيران (1953) إلى حرب فيتنام، تم تبرير التدخلات الأمريكية الدموية تحت ستار “الذود عن حياض الحرية”.
الأبعاد الدولية والتداعيات
للعودة الرسمية إلى اسم “وزارة الحرب” في عهد ترامب، انعكاسات بالغة الأهمية على المسرح العالمي:
فضح نفاق أمريكا: سيعتبر كثير من الحكومات والرأي العام العالمي هذا التحول تصديقاً لما ظلوا يرددونه عقوداً حول سياسات واشنطن الإمبريالية، التي تتستّر خلف أقنعة براقة.
توسيع الهوة مع الحلفاء الغربيين: سينأى الأوروبيون، الذين يتشدّقون بتقديم صورة “مسالمة” عن أنفسهم، بأنفسهم عن هذا النهج الصريح في إعلان النوايا الحربية.
تفاقم الاضطراب العالمي: إن قرار ترامب بتبديل اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب ليس مجرد تغيير شكلي، بل مسعى واعٍ لتطبيع العنف وإضفاء الشرعية على السياسات الهجومية الأمريكية، وينذر بتصاعد الإجراءات المزعزعة للاستقرار من قبل واشنطن في الساحة الدولية، خاصةً في ميادين المنافسة الجيوسياسية مع المنافسين العالميين.
وفي خاتمة المطاف، يمكن القول إن العودة إلى اسم “وزارة الحرب” تميط اللثام عملياً عن حقيقة ظلت متشابكةً مع خيوط تاريخ أمريكا: الولايات المتحدة كانت على الدوام قوةً مؤجّجةً لنيران الحروب، أكثر منها درعاً للدفاع ورمزاً للسلام.