الوقت - صادق الكيان الصهيوني في الأسبوع الجاري على مخطط لابتلاع مدينة غزة، واصفاً إياها بـ “المعقل الأخير لحماس”، بيد أن تنفيذ هذا المخطط الشيطاني قد أُرجئ لبضعة أسابيع لمنح الوسطاء فرصةً جديدةً لإحياء مفاوضات وقف إطلاق النار من رماد اليأس.
وفي خضم هذه التطورات المتلاحقة، أطلق “يسرائيل كاتس” وزير الحرب في الكيان تهديداً يوم الأحد الماضي بأن الهجوم على غزة سيتواصل بلا هوادة؛ ما أثار عاصفةً من الاحتجاجات العالمية والداخلية.
وكان قد حذر سابقاً بلهجة المتجبر أنه إذا لم ترضخ حماس لشروط "إسرائيل" وإطلاق سراح جميع الأسرى المتبقين، فإن مدينة غزة “ستُسوَّى بالأرض وتصبح أثراً بعد عين”.
تخبط في دهاليز احتلال غزة
سيُجبر احتلال غزة قرابة مليون نسمة من أصل مليوني نسمة يقطنون القطاع على النزوح إلى المناطق الجنوبية، ويبدو أن الغاية من وراء احتلال غزة هي إظهار عزيمة الجنود الصهاينة وتصوير أهداف حربية باءت بالفشل الذريع أمام صمود المقاومة الفلسطينية الأسطوري على مدار العامين المنصرمين، ومع ذلك، تنبأ كثيرون بأن مخطط الاحتلال الكامل لغزة سيتحول إلى رمز لهزيمة جيش الاحتلال في مستنقع غزة، الذي يبتلع الغزاة كما تبتلع الرمال المتحركة فرائسها، إذ عجز الجنود الصهاينة عن وقف ضربات كتائب القسام رغم سيطرتهم على القطاع، ولا تزال هذه الضربات تتوالى كالصواعق المتتابعة.
لماذا يتشبث نتنياهو بمواصلة الحرب المستعرة؟
رغم تعدد مبادرات وقف إطلاق النار في غزة وتنوعها، ألقى نتنياهو بها جميعاً في مهب الريح، وأصدر مؤخراً أمراً باحتلال غزة احتلالاً شاملاً، ووفقاً لخبراء التحليل السياسي، يدرك نتنياهو إدراك المتيقن أنه لا يملك ترف الوقت للتفاوض بشأن وقف إطلاق النار، إذ قد تؤذن نهاية الحرب بنهاية عرشه المتداعي.
ويرى “آلون بينكاس”، السفير الإسرائيلي السابق، أن نتنياهو مُني بإخفاق ذريع في ملفي الأمن القومي والسياسة الخارجية، لكنه سياسي محنك يعلم أن وقف الحرب سيكون بمثابة المسمار الأخير في نعش مستقبله السياسي.
ويشير المحللون إلى أن هذا هو السبب وراء إبقاء نتنياهو جذوة الحرب مشتعلةً في غزة والضفة الغربية المحتلة ولبنان، بل أبعد من ذلك، حتى يبلغ نقطةً يشعر فيها بالقدرة على الفوز في انتخابات قادمة، ويبدو أن نتنياهو لم يصل بعد إلى تلك النقطة المنشودة، وقد دعا الرأي العام الإسرائيلي مراراً وتكراراً إلى استقالته منذ أكتوبر 2023 وبداية الحرب على غزة.
وكشف استطلاع للرأي أجري في يوليو 2024 أن 72% من الإسرائيليين يطالبون باستقالة نتنياهو الفورية، ولذا يجد نتنياهو نفسه مضطراً إلى مواصلة الحرب، إذ لو توقفت رحاها وأجريت الانتخابات، لكان مصيره السياسي في مهب الريح، وقد يطوى سجله من الحياة السياسية طي النسيان، وفي ظل هذه الظروف العصيبة، يصر نتنياهو على استمرار الحرب وتوسيع نطاقها في غزة إصرار من يقامر بآخر أوراقه.
ومن ناحية أخرى، ينبغي أخذ تهديدات وإصرار الوزراء المتشددين في حكومة نتنياهو على مواصلة الحرب في غزة بعين الاعتبار، ففي حال موافقة نتنياهو على وقف الحرب، سينسحب أنصاره المتشددون في الحكومة، بمن فيهم وزراء الأمن القومي والمالية، وفي هذه الحالة ستنهار حكومته كقصر من رمال، إن الخوف من انفصال المتشددين عن حكومة نتنياهو، هو أحد العوامل التي تدفع رئيس وزراء الكيان الصهيوني إلى الإصرار بشدة على احتلال غزة ومواصلة الحرب فيها.
تعامي الصهاينة عن الإبادة الجماعية في غزة
لا يزال شبح الرعب من إمكانية اختراق حماس للحواجز الحدودية مرةً أخرى والتوغل في الأراضي المحتلة، يخيّم على الصهاينة كالكابوس المفزع، ويعتبر الكثيرون نتنياهو المسؤول الأول عن تسلل حماس، ولذا، يواصل نتنياهو الحرب بذريعة السعي للقضاء على حماس نهائياً، متخذاً من دماء الأبرياء سلماً لطموحاته السياسية.
وعلى الجانب الآخر، ورغم التقارير المتعددة عن الأزمة الإنسانية المروعة في غزة، يبدو أن المستوطنين الصهاينة قد أصموا آذانهم عن صرخات الاستغاثة، وأعموا أبصارهم عن مشاهد المأساة التي يعيشها أهالي غزة، ووفقاً لتقرير هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، تظهر استطلاعات الرأي الحديثة أن الغالبية العظمى من اليهود الإسرائيليين لا تكترث لمعاناة الفلسطينيين في غزة كأنهم من كوكب آخر.
فقد كشف استطلاع أجرته مؤسسة الديمقراطية الإسرائيلية في الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر يوليو 2024 (قبل أقل من شهر)، أن 78% من اليهود الإسرائيليين، الذين يشكّلون أربعة أخماس السكان، يعتقدون أنهم غير قلقين من تقارير المجاعة والمعاناة بين الفلسطينيين في غزة، كأن قلوبهم قد تحجرت فلا تعرف الرحمة.
كما صرح نحو 80% من اليهود الإسرائيليين في هذا الاستطلاع بأنهم لا يجدون مشكلةً في المجاعة بغزة، في تجلٍ صارخ للتجرد من الإنسانية، ولذا، ورغم الاحتجاجات في تل أبيب ضد نتنياهو لوقف الحرب، فإن شريحةً كبيرةً من المجتمع الإسرائيلي لا تعارض المجاعة واستمرار الحرب في غزة، وجُلّ ما يؤرقهم هو إنقاذ الأسرى الإسرائيليين لدى حماس، متناسين أن الإنسانية لا تتجزأ.
تأثير استمرار الحرب على النسيج الاجتماعي الإسرائيلي
تضاعفت تكاليف حرب غزة على "إسرائيل" بصورة هائلة حتى باتت تنوء بحملها، وقد انقسم المجتمع الإسرائيلي حول تحرير الأسرى الإسرائيليين وأهداف الحرب انقساماً حاداً، وبات الجيش تحت وطأة الضغوط بسبب المعارك الطويلة والشرسة التي تستنزف قواه.
وفي الأسبوع الماضي، اجتاحت مئات الآلاف من المحتجين المناهضين للحرب شوارع تل أبيب كالسيل الجارف، مطالبين بوقف إطلاق النار لإعادة الأسرى إلى ديارهم، ولا تمثّل هذه الاحتجاجات نقطة تحول، بل هي شاهد على مدى الانقسام العميق الذي أحدثه رفض نتنياهو السعي لإيجاد مخرج من حرب غزة، حتى بات المجتمع الإسرائيلي كالبنيان المتصدع الذي يوشك على الانهيار.
وفي الوقت نفسه، حتى أقوى حلفاء "إسرائيل" يعربون عن اشمئزازهم من تفشي الجوع والأزمة الإنسانية في غزة، حفاظاً على ماء وجوههم أمام شعوبهم، ففي هولندا، استقال بعض أعضاء الحكومة بسبب الخلاف حول الحرب في غزة، وفي الحزب الجمهوري الأمريكي أيضاً، ثمة خلاف حول دعم "إسرائيل" في احتلال غزة، فالدماء تصرخ والضمائر تستيقظ، حتى ترامب، الذي دخل البيت الأبيض بوعد تحرير الأسرى وإغلاق ملف غزة، أصبح متواطئاً في إطالة أمد الحرب وتأجيج نيرانها. وفي كل مرة، يمدّ يد العون لنتنياهو ويسمح له بفعل ما يشاء في غزة، متجاهلاً صرخات الضمير الإنساني.
يظهر استمرار حرب غزة أن هذه الحرب تجاوزت منذ زمن طويل سببها الأصلي، وأنها تستمر فقط لتكون طوق نجاة لنتنياهو الغارق في بحر أزماته السياسية، وما دام نتنياهو لم يُزح من سدة السلطة، فعلينا أن نتوقع مقامرات عسكرية متتالية في غزة لخدمة مصالح نتنياهو السياسية، على حساب دماء الأبرياء وأنين الثكالى وصرخات اليتامى.