الوقت- تكشف المعطيات الواردة في تقرير صحيفة معاريف العبرية عن معادلة صارخة، كلما شدّد الكيان الصهيوني عدوانه على غزة، ارتفعت وتيرة العمليات اليمنية ضده؛ بما يحوّل ساحة الصراع من جغرافيا محاصرة إلى فضاء إقليمي مفتوح على احتمالات أثقل كلفة.
الموافقة الحكومية الأخيرة على خطة لاحتلال مدينة غزة، رغم أزمة القوى البشرية وحرب الاستنزاف المتواصلة، لا تبدو دليلاً على ثقة بالنفس بقدر ما تبدو مغامرة سياسية ـ عسكرية محسوبة على أمل انتزاع مكسب سريع، غير أنّ اليمن، الذي راكم أوراق تأثير عسكرية وإعلامية، يبعث رسالة واضحة: التصعيد لن يمرّ بلا ثمن، وأن ميزان الردع يتبدّل حين تتسع الجبهات، تلك هي القاعدة التي على صانع القرار في الكيان أن يقرأها بعين واقعية لا بعين الرغبات.
معادلة التصعيد المتبادل… حين يولِّد الضغطُ ضغطاً مضاداً
تشير تقديرات الأوساط السياسية والعسكرية داخل الكيان الصهيوني إلى ترابط مباشر بين شدة عدوان غزة ونمو العمليات اليمنية؛ وهو ترابط يفضح هشاشة “قوة الردع” حين تُختزل في التفوق الناري وحده، فالمقاربة القائمة على محاصرة مدينة كبرى وتهديد احتلالها، لا تُنتج “انتصاراً سريعاً”، بل تدفع فواعل إقليمية إلى تحويل الصراع من ملف محلي إلى اختبار مفتوح لقواعد الاشتباك.
هنا، يغدو كل تصعيد في غزة قابلاً للتدويل الميداني: رسائل نارية تتخطى الحدود، وخطوط إمداد واستهداف تتسع، وجبهات تساند بعضها بعضاً في الزمن والهدف، إنّ الإيمان بجدوى “القوة الحاسمة” يغفل حقيقة أن الخصم متعدد الواجهات، وأن ساحات الاشتباك متداخلة إلى حد أنّ الضغط على حلقة واحدة يستجرّ قوة مضادة من حلقات أخرى، بهذه الصورة، لا تعود المسألة “عملية” منفصلة، بل سلسلة مترابطة تجعل الكلفة السياسية والأمنية تتراكم بسرعة تفوق قدرة الكيان على إدارة المخاطر أو احتوائها بالدعاية.
جيشٌ مُنهَك وحكومة مأزومة… الاستنزاف يبدّد وهم الحسم
إقرار حكومة الاحتلال بخطة احتلال مدينة غزة رغم نقص القوى البشرية يشي بأزمتين متلازمتين: الأولى عسكرية، تتعلق بإجهاد القوات على جبهات متعددة واستنزاف القدرات في حرب طويلة الأمد؛ والثانية سياسية، ترتبط بحسابات داخلية تحاول تعويض التعثر بقرار “نوعي” عالي المخاطرة، فالاستنزاف لا يقاس بالخسائر المباشرة فقط، بل بتآكل الجاهزية، وتضعضع المعنويات، وارتفاع تكلفة التموضع الميداني، واتساع فجوة الأهداف المعلنة عن الإمكانات الواقعية.
في مثل هذه البيئة، يتحول “الاحتلال” من خطوة محسوبة إلى عبء استراتيجي مفتوح: إدارة أمنية معقدة، مقاومة تتجدد، ومسؤولية مستدامة عن أرض وسكان تحت النار، أما على صعيد الصورة الذهنية، فإنّ استمرار العدوان يضعف خطاب “الأمن” الذي تسوّق له القيادة، ويُظهِر الكيان في موقع المطارد بجبهات متزامنة، لا القادر على فرض وتيرة المعركة وشروطها، هكذا، يتبدد وهم الحسم أمام حقائق الاستنزاف، ويغدو كل قرار تصعيدي بمثابة رهان على طاولة مليئة بالخسائر المؤجلة.
اليمن لاعبٌ إقليمي يغيّر القواعد… من الحافة البحرية إلى معادلة الردع
أثبت اليمن، وفق المعطيات المتداولة، أنّه لاعب قادر على تحدّي منظومات متقدمة، وأنه يُدخل الكيان الصهيوني ـ ومعه داعموه الغربيون ـ في اختبارات جديدة تتعلق بامتداد الميدان ومرونة الوسائط، فحين تتلاقى الإرادة السياسية مع أدوات قادرة على إيصال الرسائل النارية لمسافات استراتيجية، تتحول الأطراف البعيدة جغرافياً إلى عناصر ضغط مباشر على قرار الحرب والسلم.
الأثر هنا مزدوج: ميداني يربك الحسابات العملياتية، وسياسي يذكّر بأن محاولة خنق غزة لا يمكن فصلها عن بيئة إقليمية ترفض تثبيت معادلة “عدوان بلا تكلفة”، وإذ يلوِّح اليمن بقدرته على جعل الجغرافيا البحرية والبرية مساحات ضغط متناسقة، فهو لا يوجّه ضربة رمزية فحسب، بل يفرض على الكيان مراجعة منظومة الحماية والتدفق التجاري والعملياتي، بما يضاعف الأعباء على اقتصاد الحرب ويقوّض هامش المناورة الدبلوماسية، بهذه الطريقة، تتغير القواعد: لم تعد السيطرة الجوية وحدها ضامناً، ولا التهديد باجتياح بري طريقاً سريعاً إلى فرض الإرادة.
انعكاسات دولية وإقليمية… صراع يتجاوز حدود الجغرافيا
إنّ تصاعد العمليات اليمنية لا يقتصر أثره على الكيان الصهيوني وحده، بل يفتح الباب أمام ارتدادات أوسع على المشهد الدولي. فالقوى الغربية، التي تدّعي حماية الملاحة وفرض الاستقرار، تجد نفسها أمام اختبار عملي يُظهر عجزها عن فرض الهيمنة الكاملة أو ردع الفواعل الصاعدة.
ومن جهة أخرى، فإنّ استمرار العدوان على غزة يدفع المزيد من الأطراف الإقليمية إلى إعادة حساباتها، ما يسرّع من تشكّل بيئة جيوسياسية تتحدّى التفوق التقليدي للغرب وحلفائه. في هذا السياق، يصبح الكيان الصهيوني عبئاً على داعميه بدلاً من أن يكون ورقة رابحة، فيما تتحول المقاومة بمختلف ساحاتها إلى نقطة جذب لمعادلات جديدة تنبني على فكرة الردع المتعدد والضغط المتزامن، وهنا تكمن خطورة المشهد: صراع يتجاوز حدوده المحلية ليعيد رسم توازنات أوسع، قد لا تصب في مصلحة الكيان مهما حاول المناورة أو الاحتماء بالدعم الخارجي.
في الختام.. المشهد الراهن يشي بأنّ كل محاولة لتوسيع العدوان على غزة ستستجلب تداعيات إقليمية أوسع، وأنّ مراهنة الكيان الصهيوني على “حسم” سريع تصطدم بحقائق استنزافٍ متراكم وردعٍ متحرك. لقد أظهرت التجربة أن الضغط الأقصى يولّد مقاومة قصوى، وأنّ الجبهات حين تتكامل تُفرغ التفوق التقني من جدواه السياسية. الطريق الأقل تكلفة ـ أمنياً وسياسياً وإنسانياً ـ يبدأ بوقف العدوان ورفع الحصار والذهاب إلى معالجة جذور الصراع، لا مضاعفة أعراضه، أمّا المضي في منطق الاقتحام والاحتلال، فلن يجلب سوى مزيد من الارتباك الاستراتيجي للكيان الصهيوني.