الوقت- في توتر دبلوماسي استثنائي جرى في أوائل أغسطس 2025، شنّ السفير الأمريكي لدى الكيان الإسرائيلي، مايك هاكابي، هجوماً لاذعاً على رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، كان السبب دعوة ستارمر الكيان الإسرائيلي إلى إعادة التفكير في خطتها العسكرية لاستئصال حماس في غزة، واستعمل السفير خطاباً حاداً، كما في قوله بشكل ساخر: «هل استسلمت المملكة المتحدة للنازيين وأسقطت عليهم الطعام؟ هل سمعت بدريسدن؟.. لو كنت رئيس وزراء آنذاك لكانت المملكة المتحدة تتحدث الألمانية.
هذا الاستنكار لموقف دبلوماسي بريطاني، والذي يندرج في إطار دعوته لإنهاء العدوان ووقف التصعيد، لقي إدانة دولية واسعة، أبرزها كان من الأمم المتحدة، التي اعتبرت خطة الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة "تصعيداً خطيراً"، وحذّرت من تفاقم الأزمة الإنسانية في القطاع.
من هذه النقطة، نبني مقالنا لتحليل جذور وامتدادات ظاهرة “التعطش الأمريكي للحروب، ومدى اجتياحها السياسات والمواقف، عبر الإدارات المختلفة.
تغذية أمريكية للحروب عبر التاريخ
تُعد الولايات المتحدة الأمريكية أحد أبرز الفاعلين في تغذية الحروب حول العالم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال تدخلاتها العسكرية أو دعمها لأطراف معينة بالسلاح والتمويل، فمنذ الحرب العالمية الثانية، لعبت أمريكا دورًا محوريًا في العديد من الصراعات، مثل فيتنام، العراق، أفغانستان، وسوريا، بحجة الدفاع عن "المصالح القومية" أو "نشر الديمقراطية"، لكنها في كثير من الأحيان ساهمت في زعزعة الاستقرار وتعميق الأزمات. إضافة إلى ذلك، تُعد الولايات المتحدة أكبر مصدّر للأسلحة في العالم، وتزوّد حلفاءها في مناطق النزاع بالسلاح والدعم اللوجستي، ما يُطيل أمد الحروب ويؤدي إلى تفاقم المعاناة الإنسانية، هذا الدور الأمريكي، رغم تبريره سياسيًا، يثير الكثير من الانتقادات الأخلاقية والحقوقية، وخاصة مع تزايد الأدلة على أن المصالح الاقتصادية والاستراتيجية غالبًا ما تكون المحرك الرئيسي خلف هذه السياسات.
دور فاعل في جريمة الإبادة الجماعية في غزة
واليوم تلعب الولايات المتحدة الأمريكية دورًا فاعلًا ومؤثرًا في جريمة الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، من خلال دعمها السياسي والعسكري غير المشروط لكيان الاحتلال الاسرائيلي، فمنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة، وفّرت الولايات المتحدة غطاءً دبلوماسيًا واسعًا في المحافل الدولية، أبرزها مجلس الأمن، حيث استخدمت حق النقض (الفيتو) عدة مرات لمنع صدور قرارات تدين العدوان أو تطالب بوقف إطلاق النار. علاوة على ذلك، قامت الإدارة الأمريكية بتزويد "إسرائيل" بالأسلحة المتطورة والذخائر، بل مرّرت حزم دعم عسكري جديدة خلال ذروة العمليات، ما أسهم في استمرار العدوان وزيادة عدد الضحايا المدنيين.
ورغم الأدلة الواسعة التي وثّقتها منظمات حقوقية دولية عن ارتكاب القوات الإسرائيلية لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، استمرت واشنطن في تبنّي الرواية الإسرائيلية وتجاهل نداءات المجتمع الدولي لوقف المجازر. هذا الانحياز الأمريكي العلني يجعل من الولايات المتحدة شريكًا مباشرًا في الجريمة، سواء من خلال تمكينها العسكري لـ"إسرائيل" أو عبر عرقلة أي مسار للمحاسبة الدولية، ما يعكس ازدواجية المعايير في تعاملها مع قضايا حقوق الإنسان والعدالة الدولية.
جذور “العسكرة الأمريكية”
تكوين الدولة العسكرية الحديثة
منذ الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة عقداً من الاندفاع نحو بناء “دولة الحصن”(Garrison State)، أي دولة تُحكم من قبل النخب العسكرية والمصالح المرتبطة بها، لم يعد العسكريون مجرد أداة تنفيذية، بل تحولوا إلى القوى المركزية في رسم السياسات.
الإغراء بالحرب بعد نهاية الحرب الباردة
مع زوال الاتحاد السوفياتي، أُفرِج عن نهج توسعي في القوة الأمريكية، تمثل في حروب متعاقبة — من الخليج إلى أفغانستان والعراق وسوريا، نشأ الشعور بأن القوة العسكرية باتت أداة “أولى” وليس أخيرة
الصناعات العسكرية والاقتصاد
الحروب لدى الإدارة الأمريكية لم تعد فقط أدوات لتحقيق أهداف استراتيجية، بل تحوّلت إلى “منتج” ذو أرباح ضخمة، من “الحرب هي شركة رابحة” التي كتبها اللواء المتقاعد سيمدلي بتلر عام 1935، إلى توجيه الاستثمارات نحو الصناعات الدفاعية في اقتصاد يعاني من اختلال نمائي – كلها مظاهر لميكانيكية توليد الحرب كمورد اقتصادي.
التصور الثقافي والحرب الجذّابة
الحرب لم تعد تمثل فقط العنف المدمر، بل “قوة تمنحنا معنى” كما يرى الكاتب كريس هيدجز – تثير لدى المجتمعات شعوراً بالخلاص أو الخلاص الوطني، ويضيف مؤرخون أن الحرب الحديثة، رغم قسوتها، باتت تبدو "إنسانية" بسبب دقة الطائرات من دون طيار، ما يخفف رد الفعل الشعبي ويطيل أمد الصراعات
أمكا والحروب: هوسيّة مستمرة
من الانغماس في الحرب كسياسة إلى الحضور العسكري المتواصل والواسع، تعكس الولايات المتحدة نمطاً من الهوس بالحرب. فالواقع السياسي والاقتصادي والقيمي داخل البلاد يبني رواسب عسكرة تلتهم سقف التحليل السياسي. وسائل الإعلام، الثقافة الشعبية، والتمثيل السياسي للعمل العسكري يعلّون مكانته باعتباره أداة مناسبة تقريباً لكل ظرف.
في أبحاث مستقبلية وصياغات سياسية، يدعو البعض إلى استغلال النزاعات كساحة لتجديد القوة الأمريكية، كما في حالة أوكرانيا، بدلاً من السعي للسلام
الموقف الأمريكي اليوم: أعنف عبر الألف سنة؟
عند نقد رئيس وزراء بريطانيا لسياسات إسرائيل في غزة، تعامل السفير الأمريكي مع الانتقاد وكأنه تهديد أيديولوجي، وليس دبلوماسياً. نبرة الرد – “دريسدن” و”ناهٍ عن الخوف” – تعكس تطبيع العنف واعتباره معياراً للحكمة السياسية.
السطوة والاستثناء
ينفذ المسؤولون الأمريكيون والمتحالفون معه اختيارات عسكرية بحتة. في الوقت ذاته، يُتهمون بانتهاك مبادئ السلام ومجتمع الأمم المتحدة، كما في دعوة Foreign Affairs إلى مراجعة "عقيدة بوش" ووقف سياسة التدخل و"الحروب الوقائية
الحوثيات التي تغذي الحرب؟
ربما تكمن الإجابات في بنية المجتمع الأمريكي – اقتصاديًا (القواعد الصناعية العسكرية)، سياسيًا (المؤسسات العسكرة)، ثقافيًا (وقف الغير العام على المعارضة)، وأيديولوجيًا (الاعتقاد بأن أمريكا تحرر العالم بالعنف).
يكمن الخطر عندما تتداخل كل هذه العناصر لتخلق موقفاً، يرى استخدام القوة دائماً أولاً وليس آخر حل.
ختام القول
تصريح السفير الأمريكي في "إسرائيل" مايك هاكابي هو انعكاس مباشر لنموذج سياسي يصارع النقد عبر العنف، ويرفض الحوار، فهو لا يرى في تحذير رئيس الوزراء البريطاني سوى ضعف يراد ضربه.
هذا الانحدار نحو تجذير القوة العسكرية في السياسة والتجارة والثقافة يشكل تهديداً ليس فقط للعالم الخارجي، بل للمجتمع الأمريكي نفسه، حيث تتهشّم قيم الديمقراطية، والمساءلة، والعدالة.
إن تجاوز هذا متاح، لكن يتطلب مراجعة جذرية للعلاقات بين الدولة والمصالح العسكرية، وإعادة بناء التوازن لمصلحة الدبلوماسية، التنمية، وحقوق الإنسان، هي فرصة لإنقاذ النفس قبل إنقاذ العالم.