الوقت - في الوقت الذي تعصف فيه جرائم الكيان الصهيوني بغزة بضمير العالم، وتثير سخطاً عالمياً واسع النطاق، تسير الحكومة المؤقتة في سوريا بقيادة أحمد الشرع في مسارٍ مغايرٍ، ساعيةً إلى مدّ قنوات دبلوماسية مع تل أبيب، في خطوة تعكس تحولاً جذرياً في المشهد الإقليمي.
كشفت وكالة رويترز، استناداً إلى مصادر سورية وغربية واستخباراتية إقليمية، النقاب عن نسج خيوط اتصال مباشر بين الكيان الصهيوني والسلطة المؤقتة في سوريا، إذ انعقدت لقاءات متعددة بين أقطاب أمنية من الجانبين في المناطق الحدودية، وأماطت الوكالة اللثام عن أن هذه المباحثات جاءت تتويجاً لمشاورات سرية كانت تجري في الخفاء عبر وسطاء دوليين، منذ انهيار نظام بشار الأسد في ديسمبر المنصرم.
تصدّر المشهد من الجانب السوري في هذه اللقاءات أحمد الدلاتي، الضابط الأمني ومحافظ القنيطرة، بينما مثّل الكيان الصهيوني مسؤولون أمنيون بارزون لم تفلح رويترز في تحديد هوياتهم، وأكدت ثلاثة مصادر مستقلة أن هذه المفاوضات المباشرة جرت في نقاط التماس الحدودية، وبعض الأراضي الرازحة تحت نير الاحتلال الصهيوني.
تأتي هذه المداولات المستترة في وقتٍ أمطر فيه الكيان الصهيوني سماء سوريا بعشرات الغارات الجوية خلال الأشهر الستة المنصرمة، منتهكاً المواثيق الأمنية ومستبيحاً بعض المناطق، حيث توغلت آلته العسكرية حتى مسافة خمسة وعشرين كيلومتراً من قلب دمشق.
وعلى الرغم من هذه الاعتداءات السافرة، لزم الجولاني وحكومته المؤقتة صمتاً مريباً، ولم يصدر عنهم أي موقف رسمي إزاء هذه الانتهاكات، في تناقضٍ صارخ مع دعاواهم السابقة بالذود عن حياض سوريا وصون وحدة أراضيها، بل إن زعماء هيئة تحرير الشام أقدموا مؤخراً، تحت وطأة الضغط الصهيوني، على طرد قادة الفصائل الفلسطينية بعد سنوات من إيوائهم في الأراضي السورية، في رسالة جلية إلى تل أبيب بأن فصلاً جديداً من العلاقات بين سوريا والكيان الصهيوني يتشكل في الأفق.
النفوذ الأمريكي وبصماته الجلية
جدير بالذكر أن هذه اللقاءات المباشرة أعقبت مقابلة دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، مع الجولاني، حيث حثّه على اتخاذ خطوات عملية من دمشق نحو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، ويعكس هذا التطور تحولاً استراتيجياً في نهج الحكام المؤقتين في سوريا، ومسعى حثيثاً لاكتساب الشرعية الدولية من خلال الانسجام مع المخططات الإقليمية الأمريكية.
يروم نظام الجولاني من وراء هذه الخطوة فك طوق العزلة الدولية، وتقديم نفسه كطرف شرعي وقابل للتفاوض أمام المجتمع الدولي، كما يسعى الجولاني، من خلال الانخراط في مشروع التطبيع، إلى تيسير تدفق المعونات الاقتصادية والعسكرية من الغرب.
استئصال شأفة المقاومة: الهدف المشترك لدمشق وتل أبيب
ما لا مراء فيه أن أي لقاء مباشر بين أرباب السلطة في دمشق وتل أبيب، ينطوي على جملة من المساومات السياسية والأمنية والاقتصادية، إذ يستحيل أن تنعقد مثل هذه اللقاءات دون أن تسندها اتفاقيات مضمرة أو معلنة.
يقول جعفر قنادباشي، الخبير في شؤون غرب آسيا، في حديث خصّ به “الوقت”: “سعت حكومة الجولاني في مفاوضاتها المباشرة مع الكيان الصهيوني، إلى استرضاء داعميها الأساسيين الذين مهّدوا سبيل وصولها إلى سدة الحكم، فليس ثمة من بين الداعمين الإقليميين والغربيين لحكومة الجولاني من يعارض التفاوض مع الكيان الصهيوني، بل يرحبون بتطبيع العلاقات معه، ولا سيما أن استمرار مناهضة قوى المقاومة في المنطقة واستئصال القوى المنافسة في سوريا، يقتضي تعاوناً وثيقاً بين الکيان الإسرائيلي وحكومة الجولاني”.
ويضيف قنادباشي: “يتطلع الكيان الصهيوني إلى تحقيق مآرب توسعية، كالسيطرة على بعض المناطق الحدودية المشتركة أو إنشاء ممر للوصول إلى إقليم كردستان، وهو ما يستحيل تحقيقه دون مباركة حكومة الجولاني، كما أن تحجيم قدرات حزب الله اللبناني يمثّل غايةً مشتركةً للطرفين، تستدعي تبادل الرؤى والتنسيق بينهما”.
وحول الظروف التي تدفع الكيان الصهيوني للتفاوض في هذه المرحلة الحرجة، يوضح الخبير: “يرزح الكيان الصهيوني تحت وطأة ظروف عصيبة تجبره على التنازل عن بعض مواقفه، إذ يرى في التفاوض مع حكومة الجولاني نافذةً للخلاص من بعض مآزقه، كما أن تطبيع العلاقات مع سوريا يمثّل من منظور هذا الكيان وسيلةً لاستجلاب دعم الأطراف الإقليمية والغربية، ويتيح له صون مصالحه الاستراتيجية في سوريا على نحو أمثل”.
وعن دور الوسطاء الإقليميين، يستطرد قنادباشي: “تتبنى القوى الإقليمية مخططات لسوريا في مرحلة التحول، ومشاريع لإرساء ترتيبات جديدة في غرب آسيا، وتأبى تفويت الفرص التي أتاحتها حكومة الجولاني في سوريا، خشية أن تتمكن قوى المقاومة والجماعات المتحالفة معها من قلب موازين القوى بما يتعارض مع مصالحها، لذا، فإن برامجها ومشاريعها قيد التنفيذ تنهض أساساً على مجابهة قوى المقاومة والقوى المناوئة للکيان الإسرائيلي”.
خاتمة القول
في المحصلة، فإن التواصل المباشر بين الكيان الصهيوني والحكومة المؤقتة في سوريا، وإن كان يُطرح في العلن تحت لافتة “خفض التوتر”، إلا أنه في حقيقة الأمر جزء من صفقة جيوسياسية واسعة النطاق، قد تؤثّر في تشكيلة القوى الإقليمية وربما في مستقبل بنية السلطة في سوريا، وعليه، فإن هذه المفاوضات ليست مجرد مناورة تكتيكية، بل هي حلقة في سلسلة استراتيجية لإعادة صياغة العلاقات بين الأطراف المتنازعة في المنطقة.