الوقت- منذ أكثر من 19 شهرًا، تعيش غزة واحدة من أحلك فصول التاريخ الفلسطيني المعاصر، القصف المستمر، الحصار الخانق، وانهيار البنية التحتية الصحية والإنسانية لم يكونوا وحدهم المشهد الدامي للعدوان الإسرائيلي، بل أٌضيف إليهم سلاح جديد وأكثر خبثًا ألا وهو تسييس المساعدات الإنسانية واستخدامها كأداة للتهجير القسري وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين.
في تقرير صادم صدر مؤخرًا عن منظمة أطباء بلا حدود(MSF)، اتهمت المنظمة الاحتلال الإسرائيلي باستخدام سياسة توزيع المساعدات الإنسانية بطرق غير إنسانية، واعتبرت ذلك جزءًا من استراتيجية "التطهير العرقي" ضد سكان غزة، وجاء التقرير ليؤكد ما كان يُتداول لعدة شهور من تقارير وشهادات، حول الكيفية التي يتم بها توجيه سكان القطاع نحو مناطق معينة، ثم قصفهم أو إجبارهم على الهروب مجددًا، ضمن دوامة من النزوح والمعاناة.
أطباء بلا حدود: الکیان الإسرائيلي يستخدم المساعدات كفخ قاتل
البيان الصادر عن المنظمة أكد أن الكيان الإسرائيلي لا يتعامل مع المساعدات باعتبارها حقًا إنسانيًا، بل حولتها إلى أداة ضغط ومصيدة قاتلة، حيث يتم الإعلان عن توزيع مساعدات غذائية في مناطق خاضعة لرقابة عسكرية مشددة، ليُجبر الناس على الزحف نحو هذه النقاط تحت وطأة الجوع واليأس، ثم تتعرض هذه النقاط لهجمات مميتة أو لعمليات تفتيش وإذلال، المنظمة وصفت هذه السياسة بأنها "سلوك غير إنساني" يهدف إلى دفع السكان للنزوح القسري، في إطار خطة مدروسة لتفريغ غزة من أهلها.
سياسة التجويع والقتل الجماعي: من التنسيق الأمريكي الإسرائيلي إلى النتائج الكارثية
تقرير "أطباء بلا حدود" لم يقتصر على إدانة السلوك الإسرائيلي فحسب، بل حمّل أيضًا المسؤولية للولايات المتحدة، مشيرًا إلى أن "خطة التوزيع التي تقودها واشنطن وتل أبيب أثبتت فشلها الذريع منذ بدايتها الكارثية"، واعتبرت المنظمة أن هذه الخطة لم تكن تهدف أصلًا لتقديم الإغاثة الفعلية، بل كانت غطاءً لسياسات تهجير ممنهجة.
ما يدعم هذا الطرح، هو التكرار المشبوه لمجازر نقاط توزيع المساعدات في شمال ووسط قطاع غزة، حيث وثّقت عدة منظمات دولية، إضافة إلى تقارير صحفية (من بينها الجزيرة، TRT، العربي الجديد، ونيويورك تايمز)، استهداف مدنيين تجمعوا للحصول على مساعدات غذائية، في مشاهد تراجيدية باتت تتكرر أسبوعيًا.
تفريغ هادئ ومبرمج
لطالما لجأ الاحتلال الإسرائيلي إلى أساليب القمع العسكري المباشر لفرض سياساته، ولكن ما يحدث في غزة منذ أواخر 2023 يمثل تحولًا في أدوات الحرب، من المدفعية والدبابات إلى الجوع والمساعدات كوسيلة للقتل أو النزوح.
هذه الفلسفة الجديدة تستند إلى فكرة أن "غزة مشكلة ديمغرافية"، وأن "أمن الكيان الإسرائيلي يبدأ من تقليل عدد الفلسطينيين"، وهو ما انعكس في تصريحات قادة الاحتلال مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، الذين دعوا صراحة إلى تهجير سكان القطاع إلى سيناء أو إلى دول أخرى.
في هذا السياق، يصبح التحكم في المساعدات الإنسانية جزءًا من الحرب النفسية والسياسية، حيث يُخيّر الفلسطينيون بين الجوع أو الهروب، بين انتظار شاحنة معونات قد لا تصل، أو انتظار صاروخ يسقط في صف الانتظار.
المجتمع الدولي شريك بالصمت أم عاجز أمام الجرائم؟
تقرير "أطباء بلا حدود" يأتي في وقت يتزايد فيه الغضب الشعبي والحقوقي العالمي، في مقابل صمت رسمي من معظم الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذين يواصلون تبرير جرائم الاحتلال تحت غطاء "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس".
لكن حتى هذا الغطاء بات هشًا، فشهادات الأطباء والمساعدين الإنسانيين، والمنظمات المستقلة، كشفت أن ما يحدث في غزة لم يعد مجرد حرب، بل سياسة إبادة وتطهير عرقي، تقرير المنظمة أشار إلى أن "منع الطعام والدواء والقتل في نقاط التوزيع، كل ذلك يصب في هدف واضح: إجبار السكان على الرحيل".
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا لم يكن ذلك تطهيرًا عرقيًا، فما هو إذًا؟
أطباء بلا حدود ليست الوحيدة التي أطلقت هذا التحذير، تقارير من منظمة الصحة العالمية، برنامج الغذاء العالمي، وهيومن رايتس ووتش، كلها أكدت أن الاحتلال يمنع دخول كميات كافية من الطعام والدواء، بل يقوم باستهداف المستشفيات ومراكز الإيواء.
في شهادات صادمة، قال بعض منسقي الإغاثة إنهم اضطروا لرمي الطعام من الشاحنات على الأرض والفرار، لأن الجنود الإسرائيليين بدؤوا بإطلاق النار على الجموع.
في مشهد وثّقته الجزيرة، قال أحد الناجين من مجزرة نقطة توزيع في دير البلح: "ذهبنا من أجل كيس طحين، فعدنا نحمل الجثث، إنهم لا يريدون مساعدتنا، يريدون دفننا جوعى".
سياسة التجويع كسلاح استراتيجي
ما تكشفه هذه التقارير أن الكيان الإسرائيلي يستخدم التجويع الممنهج كسلاح استراتيجي لإخضاع السكان، إنها ليست فقط أزمة إنسانية، بل جريمة حرب مكتملة الأركان وفقًا لاتفاقيات جنيف، التي تمنع منعًا باتًا استخدام الغذاء والدواء كسلاح ضد المدنيين.
تقرير "أطباء بلا حدود" أكّد أن ما يجري هو "إبادة بطيئة"، يتم فيها التحكم في كل أشكال الحياة، من الكهرباء إلى الماء، من المعابر إلى نقاط التوزيع، ضمن حلقة مفرغة من القتل غير المباشر.
في ظل هذا الواقع، يجب أن تتحول تقارير مثل تقرير "أطباء بلا حدود" إلى أدوات قانونية وإعلامية وسياسية للضغط على الحكومات والمنظمات الدولية، يجب أن يُحاسب الاحتلال على سياساته في محكمة الجنايات الدولية، لا أن يستمر في تلقي الدعم العسكري والدبلوماسي من الغرب.
كما تقع المسؤولية أيضًا على الإعلام العربي والدولي الحر، لتسليط الضوء على هذه الجرائم، وكشف ازدواجية المعايير التي يتعامل بها الغرب مع الأزمات الإنسانية، من أوكرانيا إلى غزة.
غزة ليست مجرد رقم في النشرات
غزة اليوم ليست فقط مدينة محاصرة، بل ساحة اختبار لإنسانية العالم، تقرير "أطباء بلا حدود" جرس إنذار جديد، يُضاف إلى آلاف التقارير والشهادات التي توثق جريمة العصر وفلسطين ليست مأساة إنسانية فقط، بل قضية سياسية وحقوقية وأخلاقية وكل لحظة صمت عن هذه الجرائم، هي مساهمة غير مباشرة في استمرارها.