الوقت- المجتمع الصهيوني منذ نشوئه في عام 1948 بعد احتلال فلسطين، لم يقم على أسس ومعايير سليمة كبقية المجتمعات الإنسانية في مختلف أنحاء العالم، وما يميزه أنه مجتمع استيطاني إحلالي تشكل من مهاجرين من أكثر من 100 دولة في العالم، نقلتهم الحركة الصهيونية تحت مزاعم مختلفة إلى فلسطين، ثم إلى يومنا هذا استمرت حركة نقل اليهود من أنحاء المعمورة إلى فلسطين المحتلة دون توقف، وهي تشكل المصدر الرئيسي لزيادة عدد سكان اليهود في الأراضي المحتلة.
منذ اليوم الأول من تأسيسه، حمل هذا المجتمع في داخله بذور الانقسام والصراع المجتمعي، تعود هي إلى الاختلاف في الهويات، والانتماءات الثقافية، والفكرية، والجغرافية، والمجتمعية بتعدد الدول التي انتقل أو ينتقل منها اليهود إلى الأراضي الفلسطينية، وهذا ما ظهر جليا في ظهور تباينات مجتمعية تحت مسميات مختلفة في مختلف مراحل حياة الكيان الصهيوني، فحسب الأصول ينقسم المجتمع الصهيوني بين "الإشكنازي"، و"السفارديم" و"الفلاشا"، وكذك سياسيا منقسم بين اليمين واليسار والوسط، وفكريا ودينيا هناك متدينون (حريديم) وعلمانيون، وقوميا وعرقيا هناك مسميا اليهود والعرب.
إلى جانب اليهود المتفرقين بين تلك التسميات، والذين يشكلون 80 بالمائة من المجتمع الإسرائيلي، يعيش داخل ما تعرف بـ "إسرائيل" (فلسطين المحتلة 1948) أكثر من مليون و500 ألف فلسطيني، يشكلون 20 بالمئة من عدد سكانها. يُنظر إلى هؤلا الفلسطينيين كأعداء، رغم أنهم يُعتبرون حسب القوانين الإسرائيلية مواطنون إسرائيليون. هذا ما يؤكد عليه استطلاع للرأي، أجراه معهد "مدجام" الإسرائيلية، ونُشرت نتائجه يوم الاثنين الماضي 3 أبريل، حيث تقول تلك النتائج أن43 بالمائة من اليهود الذين شاركوا في الاستطلاع يعتقدون أن العرب مخيفون.
أهم عامل تسبب في حدوث هذه الشرخة المجتمعية في "إسرائيل"، هو انعدام هوية موحدة تجمع هؤلاء المهاجرين في وعاء واحد، وكما قلنا، يعود ذلك إلى انتماء المهاجرين المستوطنين في فلسطين المحتلة إلى بلدان وهويات وثقافات مختلفة في العالم.
كما أنه إضافة إلى هذا العامل الرئيسي، هناك عوامل أخرى مثل تراجع حركات اليسار، وعلمانية الكيان، وصعود حركات اليمين المتطرف والمتدينين، والتي زادت من الشروخ والصرعات في فلسطين المحتلة، هذا التراجع الذي بدأ في سبعينات القرن الماضي حينما فاز حزب الليكود اليميني، وأنهى بذلك تفرد حزب العمل بالحياة السياسية تقريبا، استمرت وتيرته بشكل سريع ومتواصل، حيث أكدت نتائج استطلاع نشره معهد "داحاف" الإسرائيلي في آذار 2011، ارتفاع نسبة اليهود الذين يعتبرون أنفسهم يمينيين، من 48% في 1998 إلى 62% في 2010. ولعل ظهور حركات سياسية يمينية متطرفة، مثل "إسرائيل بيتنا" بقيادة أفيغدور ليبرمان، و"البيت اليهودي" بقيادة نفتالي بينيت، ودخول هذه الأحزاب الكنيست الإسرائيلي، يؤكد صحة ما ذهبنا إليه ونتائج هذه الاستطلاعات في توجه المجتمع الصهيوني نحو اليمين العنصري المتطرف.
كما أن هذا ما أكد عليه أيضا، آخر الاستطلاع الذي أجراه "مدجام"، حيث أظهرت نتائجه بشكل واضح حجم تغلغل الفكر اليميني والعنصري في المجتمع الإسرائيلي، عندما أجاب 22.5 من الإسرائيليين المستطلعين آرائهم أن اليساريين يشكلون خطراً على إسرائيل، وأن 33% منهم يقولون إنهم لا يعرفون أي يهودي متدين، أي أنهم لا يعترفون بهم.
هذه الحالة التصدعية في كافة المستويات في المجتمع الإسرائيلي، تصفها الكاتبة اليهودية ياعيل دايان إبنة موشي دايان في كتابها المعنون بـ"وجه المرأة" بشكل أدق، حيث تقول: "ما بين التصدع القومي والتصدع الديني والطائفي والطبقي، تتشكل عوامل انهيار دولة "إسرائيل" في المستقبل، أو على أقل تقدير دخولها في دوامات الصراع الداخلي... نحن نعيش فوضى مطلقة في مجتمعنا"
إلى جانب هذا الصراع المجتمعي بين مختلف التوجهات الفكرية، والسياسية، والدينية في "إسرائيل"، يعاني المجتمع الصهيوني ثمة مشاكل اجتماعية، تقول عنها "ياعيل دايان": "من يقرأ ويتقصى الحقائق ويتعمق في الداخل الإسرائيلي ويطلع على التناقضات والمشاكل الداخلية يدرك ضعف هذا المجتمع وفراغه من الداخل بل وكم كبير من الصراعات والمشكلات والفساد والشذوذ."
لأسباب عديدة لم يطفح هذا الانقسام الخفي داخل المجتمع الإسرائيلي على السطح سابقا، والصراعات التي يعاني منها الصهاينة لم تصل إلى حالة الانفجار، ويفترض أن لا تصل إليها في المستقبل القريب، لكن الخطورة أن هذه الصراعات المجتمعية باتت تقود المجتمع الصهيوني نحو التفكك أكثر من قبل، ولو لا تلك الأسباب التي تأتي على رأسها، وجود هذا المجتمع والكيان الذي يمثلهم وسط بيئة معادية من كل حد وصوب، لتفكك منذ وقت طويل، لكن حالت الأخطار الخارجية التي يواجهها الكيان الصهيوني دون وصول الانقسامات المكنونة والصراعات في المجتمع الاسرائيلي إلى حالة انفجار وتفكك.
كذلك وردت في نتائج الاستطلاع أن الرابط الوحيد بين مختلف شرائح المجتمع الصهيوني هو الأخطار الخارجية التي تهدد الاحتلال الإسرائيلي، إذ قال 62 في المائة من اليهود المشاركين في الاستطلاع إن هذا هو العامل الوحيد الذي يوحدهم ويجمع بينهم. وهذا يعني أن الشعور بالتهديد المشترك الذي يواجهه مختلف شرائح المجتمع الصهيوني، هو الضامن الوحيد لبقاء هذا المجتمع واستمرار حياته.
قادة الكيان الصهيوني منذ تأسيسه يعرفون موطن الضعف هذا، لذلك حاولوا دائما إيجاد حالة تماسك مجتمعي عبر التخويف من الأعداء، ومن هذا المنطلق وقبل خمسة عقود تقريبا، قال وزير الحرب الإسرائيلي الأسبق "موشي دايان": "نحن جيل من المستوطنين، لا نستطيع غرس شجرة أو بناء بيت من دون الخوذة الفولاذية والمدفع. علينا الا نغمض عيوننا عن الحقد المشتعل في افئدة مئات الالوف من العرب حولنا. علينا الا ندير رؤوسنا حتى لا ترتعش ايدينا، انه قدر جيلنا، إنه خيار جيلنا ان نكون مستعدين مسلحين، ان نكون أقوياء وقساة حتى لا يقع السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة".
خلاصة القول أن المجتمع الإسرائيلي لا يعيش حالة سليمة، وأنه مجتمع منقسم على نفسه، فمن جهة 20 بالمائة ممن يوصفون وفق القوانين الإسرائيلية جزءا من هذا المجتمع، وهم فلسطينيو 48 يرفضون الولاء لإسرائيل، ومن جهة أخرى بقية المكونات لا تعترف ببعضها البعض، وهم متفرقون تحت مسميات "اليمين" و"اليسار"، و"العلماني"، و"المتدين"، و"المستوطن" و....الخ. رغم ذلك، هذا الانقسام لم يصل إلى أزمة مستعصية وتفكك بيّن، والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة نجحت إلى حد كبير حتى الآن في عدم وقوع هذا التفكك والحفاظ على التماسك والانسجام ولو في الظاهر خلال سبعة العقود الماضية، وذلك لأسباب عدة أهمها العيش في بيئة معادية، والتخويف من الأعداء المحيطين بهذا المجتمع، وسن قوانين تحول دون ذلك.
وفي هذا السياق، نشأت حركات اجتماعية لمواجهة هذا الوضع المتردي الذي يواجهه المجتمع الإسرائيلي، والتي كانت آخرها حركة "في الداخل" الشعبية التي أعلنت عن نفسها 3 أبريل 2017 بعد تأسيسها من قبل عدد من الجنرالات السابقين أبرزهم "بيني غانتس" و"غابي أشكنازي" رئيسا هيئة الأركان الإسرائيلية السابقان والحاخام شاي فيرون.
رغم ذلك، مادامت أسباب التشرذم والصراع باقية في "إسرائيل"، لا يمكن الاعتقاد بأن مثل هذه الحركات ستنجح في إنهاء تلك الانقسامات والصراعات، بناء على ذلك قد تتمكن من إبطاء حركة التصدع المجتمعي، لكن قد يكون من الصعب إيقافها.
بقلم صابر كل عنبري