الوقت - لم تفلح كافّة المؤتمرات الدوليّة السابقة في وقف النزيف السوري القائم منذ أكثر من خمس سنوات. لكن التبدّلات الدوليّة والإقليمية والميدانية الطارئة خلال الأشهر الماضية أوجدت فسحة أمل قد تضع حدّاً لأوجاع وآلام السوريّين.
فسحة الأمل هذه جاءت عبر العاصمة الكازخية آستانة، بعد توافق روسيا وإيران وتركيا على بيان مشترك (إعلان موسكو)، لإحياء العملية السياسية في سوريا، وإجراء مفاوضات بين أطراف النزاع في آستانة عاصمة كازاخستان، ليضاف إليها التفاهم الذي توصّل إليه الجانب الروسي مع تركيا والذي يقضي بوقفٍ شامل لإطلاق النار في سوريا، أي توسيع خطة وقف إطلاق النار في مدينة حلب ليشمل كل أنحاء سوريا، والتي قد تشكّل أساسا لمحادثات سلام بين الحكومة السورية والمعارضة.
قد ينظر البعض بعين الريبة إلى هذا المؤتمر، ويرى فيه تكراراً لعشرات المؤتمرات السابقة التي لم تسمن ولم تغنِ من جوع، إلا أن التبدّلات التي حصلت مؤخراً، تؤكد اختلاف هذا المؤتمر عن مثيلاته لأسباب عدّة، نذكر منها:
أوّلاً: التعاون الجدي القائم بين روسيا وتركيا، لاسيّما بعد الإجتماع الثلاثي الذي حصل في موسكو قبل أسبوع بين لافروف وظريف وأوغلو، ولعل اتفاق نقل المسلحين من حلب، الذي لعب فيه السفير الروسي "أندريه كارلوف" الذي تم اغتياله في أنقرة برصاص ضابط أمن تركي، أبرز مصاديق هذا التعاون الذي تعزز بعد حل قضيّة الطائرة الروسيّة. تعد تركيا البوابة الأبرز للمسلحين على الصعيدين السياسي واللوجستي، وتبلغ طول الحدود السورية التركية حوالي 822 كم، وبالتالي لا يمكن تجاهل الدور التركي في الأزمة، سواءً سلباً أم إيجاباً، وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدل على أن الجانب التركي هو الذي يحرك الكثير من الجماعات المسلّحة في سوريا ويؤثر عليها.
ثانياً: يعد انتصار حلب أحد أبرز أسباب العودة إلى البوابة السياسيّة بزخم أكبر من السابق، فانتصار حلب الإستراتيجي كان بالغ الأهمية وقد أسقط معه هدف إسقاط النظام في سوريا. في الحقيقة، إن انتصار مدينة حلب شكل ضربة قاسية ومؤلمة للجماعات المسلّحة في سوريا، وكل من يساندها، وبالتالي اقتنعت العديد من الدول أن لا مفرّ من العودة إلى الطاولة السياسية خشية الخسارة. فوجدت تركيا نفسها أمام تهديدات كبرى من تنظيم داعش الإرهابي الذي باتت تتلظى بناره في سوريا، وكان هناك تعويل كبير على إسقاط مدينة حلب لفرض شروطها على سوريا، لكن انتصار حلب حال دون ذلك.
يوضح المتحدث باسم فصيل صقور الشام، مأمون الحاج موسى، أن هناك ضغوطاً مورست على فصائل المعارضة السورية للقبول بوقف إطلاق النار، ويضيف: هذه الضغوط تأتي من مبدأ أن "المعارضة السورية هزمت بسقوط (تحرير) حلب، وأن عليها القبول بوقف إطلاق النار والذهاب إلى طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة".
ثالثاً: لعل فوز المرشح دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، زاد من دفء الشعب السوري بسبب إعلانه (حتى الساعة يقتصر الأمر على الإعلام) أنّه سيحارب الإرهاب ومعارضته إسقاط الرئيس الأسد لأن ذلك سيصب في صالح تنظيم داعش الإرهابي، وذلك بخلاف أفعال الإدارة الأمريكية الحالية التي تنتهي صلاحيّتها بعد أيّام.
الأسئلة كثيرة، تبدأ من كل بيت سوري لتصل إلى عواصم الدول الإقليمية، والعواصم العالميّة، إلا أن هذه الأسئلة ومهما تنوّعت وتبدّلت وكانت وجهتها، تشير أجوبتها في حال استمر المناخ الإيجابي القائم منذ انتصار حلب إلى أن وقف إطلاق النار في سوريا سيؤدي إلى إنهاء الحرب، والتفرّغ لمواجهة تنظيمي داعش والنصرة الإرهابيين.
ورغم أن كل ما يحصل يصب في صالح الشعب السوري، إلا أن تركيا أحد أبرز المستفيدين، لأن أمن الشمال السوري بات من أمن تركيا، فإن العديد من القرى والمناطق الحدودية التركيّة قد تتحوّل إلى "مدينة باب" ثانية وثالثة ورابعة، وهو ما قد يدفع تركيا بالابتعاد أكثر وأكثر عن السعودية التي تتسم مواقفها بالحدّية. هذا بالفعل ما نشاهده اليوم إثر غياب الدور السعودي الملحوظ عن أجواء الحديث عن وقف إطلاق النار، ومفاوضات الآستانة.
في حسابات الربح والخسارة، الجميع سيربح من الحل السياسي للأزمة في سوريا عدا الكيان الإسرائيلي الذي سيكون أبرز الخاسرين سواءً من إنهاء الحرب، أو من القضاء على تنظيم داعش الإرهابي، وهذا ما صرّح به مسؤولون عسكريون إسرائيليون في وقت سابق.
حتّى كتابة هذه السطور لا يزال الحديث عن مؤتمر الآستانة "مبهم" نوعاً ما، حيث لا ندري هل تم التوافق؟ وعلى أي شيء سيتم التفاوض؟ ومن سيشترك في المفاوضات؟، إلا أن الأجواء الإيجابية التي تطفو إعلامياً تخفّف حدة هذا الغموض.
في الخلاصة، يشكّل مؤتمر الآستانة الذي قد تشمل مقرّراته وقف إطلاق النار في عموم الأراضي السورية لأعوام بدل العام الواحد، على ألا يشمل بعض الأماكن التي توجد فيها جبهة فتح الشام، (النصرة سابقاً)، وبالتالي نكون أمام حوار سوري-سوري ينهي المشهد الدموي الذي نعيشه منذ سنوات وراح ضحيّته مئات الآلاف من الضحايا وملايين المهجّرين. وكل من ينكث بتعهداته ويعيق الحل السياسي يتحمّل كافّة الدماء التي سالت، وتسيل، أمام الله والتاريخ.