الوقت- تتسارع الأحداث في المنطقة، وتتسارع معها انهيارت أنظمةٍ وصعود أخرى. هي الحالة التي يمكن وصف المنطقة بها عموماً. لكن الأهم من ذلك هو حقيقة القوة، أو القوة الحقيقية، للأطراف التي تلعب في الملعب السياسي اليوم. ولا شك أن تسليط الضوء على هذا الموضوع يأتي في سياق وضع الرأي العام أمام الحقائق والوقائع. فالدول التي تدير الصراعات، لا تعير أهمية لفهم الشعوب لهذه الصراعات. بل ينصب همها على إنجاح سياساتها، ولو على حساب الشعوب. لكن الواقع اليوم أصبح أكبر من الجميع. فالشعوب لم تعد كالماضي، تعيش لتأكل وتشرب فقط، بل دخلت في طيات يومياتها، تفاصيل الحياة السياسية، مما جعلها شريكةً في حمل هم صراع الوجود المحتدم. وهنا تأتي أهمية تسليط الضوء على ما يجري في العراق اليوم. أو ما يمكن إطلاق صفة اللوحة العراقية المعقدة، والتي تحمل في طياتها الكثير من الدلالات الإستراتيجية. فما هي الحقائق التي يجب تسليط الضوء عليها، فيما يتعلق بالواقع العراقي؟
أولاً: الإرهاب الأمريكي، المتمثل بالأخطبوط الداعشي:
إن تعاظم قوة الإرهابيين بالطريقة البربرية، أظهر بشاعة صورتهم وحقيقتها. فالإرهاب الذي يمكن أن يكون تنظيم داعش في واجهته اليوم، هو ليس سوى أخطبوطٍ تاريخيٍ يُخفي في طياته خليطاً متحداً في الأهداف. فالقوى المختلفة غير المتجانسة والتي تتكون من خلايا إستخباراتية الى متطوعين جهاديين متعددي الجنسيات يؤمنون بالعقيدة السلفية، وصولاً الى قوى علنية كالتيارات الوهابية أو الإخوان المسلمين، أو بقايا الصراعات السابقة، في الشيشان والبلقان وأفغانستان أو عناصر أمنية وعسكرية متضررة، طامحة للسياسة وتجارة الحروب. هذه هي حقيقة الإرهاب اليوم. لذلك لا بد من فهم هذه الحقيقة، للتعاطي مع ملف الإرهاب العالمي.
وفيما يتعلق بالمشهد العراقي، فلا شك أن القوة العسكرية الصاعدة للقوات العراقية، استطاعت استعادة أجزاء واسعة من محافظات الوسط العراقي التي سقطت بيد الإرهاب. وبالنتيجة استطاع المجتمع العراقي، استعادة ثقة المواطن المفقودة بنفسه وبالسلطة الحاكمة. وكما هو معلومٌ فإن هذه الحركة التغيرية التي يشهدها العراق اليوم، كان لإيران الدور المركزي في ترسيخها، من خلال سياسة احترام التوازنات العراقية الداخلية، والاستفادة من مقومات توحيد العراقيين ضد الإرهاب. والجميع يعرف أن الدعم الحاصل من المرجعية الشيعية العراقية، الى جانب العشائر السنية، والذي أدى الى توحد الجهود العراقية، كان لإيران أيضاً، دورٌ في إنجاحه. وهو ما أثمر عن إعادة بناء العمود الفقري للجيش العراقي، والشرطة المحلية، والذي أدت في السابق، سياسة اللاعب الأمريكي والتي كان يترجمها أطرافٌ إقليميون كدول الخليج الفارسي وتركيا بالتحديد، الى إضعافه والقضاء على قدراته العسكرية واللوجستية.
ثانياً: سياسة تطويل مشهد الإرهاب الداعشي الأمريكية في العراق:
وما يجب معرفته عن حقيقة النفاق الأمريكي فيما يتعلق بالإرهاب، هو أن السياسة الأمريكية التي تدعي قتال الإرهاب في المنطقة، تقوم في الحقيقة على محاولة تطويل عمر المنظمات الإرهابية. وهو ما تحاول السياسة الأمريكية اليوم القيام به، بالتعاون مع أدواتها التنفيذية كتركيا والسعودية ودول أخرى، والتي قد تختلف فيما بينها، لكن لا شك أن ما يجمعها هي أهداف السيد الأمريكي الذي يوزع الأدوار عليها. فما يميز هذا الفريق التابع للاعب الأمريكي، أنه يضع نفسه تحت المظلة الأمريكية العامة، التي تراهن في الحقيقة، على أن هزيمة تنظيم داعش الإرهابي لن تتم قبل ثلاث سنوات. فإستراتيجية تطويل مشهد الإرهاب الداعشي المعتمدة لدى اللاعب الأمريكي في العراق اليوم، يمكن تفسيرها في أنها محاولة لرسم خرائط أمر واقع تقسيمية على الأرض، سيتم الاعتماد عليها، بعد ذهاب أسطورة داعش. والهدف من هذه الخرائط فرض واقعٍ سياسي ودستوريٍ ابتزازي، مفاده أن هذه المناطق التي كانت خارج السلطة المركزية لفترة طويلة كالمناطق الكردية مثلاً، لا يمكن إعادتها الى مركزية الدولة، من دون دفع ثمن باهظ. ولهذا السبب وبالمفهوم العسكري، هكذا يمكن تفسير العمليات التي تقودها قوات التحالف برئاسة أمريكا، والتي تهدف الى رسم حدود الخرائط من الجو، عن طريق القصف بالطائرات، والدعم العسكري من الأرض عبر قوات البيشمركة والخبراء الأجانب. مما يساهم في استكمال رسم الخرائط، وتعميق الأمر الواقع، وهو عين ما يحدث في سوريا أيضاً.
وهنا تأتي الإشارة الى الدور الإيراني المهم. فإيران التي استطاعت فرض سياستها الذكية على المنطقة والعالم، فهمت حقيقة المشروع الأمريكي منذ زمن. فأمريكا التي فشلت في حربها على العراق، قررت الحرب بالوكالة. فكانت السياسة الإستراتيجية الإيرانية، توقع الجميع في فخ الرهانات. وإذا كانت اليوم إيران تحصد الانتصارات في المنطقة، وتحظى باحترام شعوبها، فهذه ليست سوى نتائج للسياسات الإيرانية بعيدة المدى، والتي أدت الى إعادة البوصلة للقدس، مما وحد الشعوب، وجعل الكيان الإسرائيلي يعيش حالة دائمة من القلق على الوجود. ومما يسجل لإيران في العراق، أنها استطاعت مساعدة العراق في منعه من الوقوع في مصيدة الجغرافيا السياسية. فأمريكا التي اتخذت من الحرب على الإرهاب غطاءاً لحركتها على الأرض، سقط قناعها حين تبرأت من معركة تكريت الاخيرة. وسقطت معها رهانات دولٍ مأمورة كالسعودية وتركيا وبعض دول الخليج الفارسي. فيما أثبتت إيران أنها دولة الثوابت والمبادئ، وراهنت على وحدة العراق أرضاً وشعباً، وكالعادة نجحت في رهاناتها.
إننا اليوم أمام لوحةٍ معقدةٍ للمنطقة. تحتاج للكثير من الفهم العميق والقدرة على معرفة الأسباب لقراءة النتائج بواقعية. لكن مما لا شك فيه، هو أن الجميع ينظر الى المستقبل بقلق. فصراع الوجود الذي قد ينشأ، نتيجة المنعطفات الخطيرة التي تشهدها المنطقة، قد يكون صراعاً شرساً يحتاج لمن يديره بهدوء. فالجميع يعرف اليوم أن الأطراف السياسية التي تدير المنطقة، قد تجلس معاً على طاولةٍ واحدة. لكن اللاعبين الجالسين على نفس الطاولة، لا تجمعهم الأهداف أو المبادئ نفسها. بل يجمعهم، همُّ تحديد المستقبل، عبر لعبة فرض الأوراق. ومما لا شك فيه أن اللاعب الأمريكي الذي لا يمكن نكران قوته وإن تراجعت، يدرك جيداً أن الزمن تغير. وأن اللاعب الإيراني اليوم، حاضرٌ على الطاولة بقوة، بل قد يترأسها. وهنا تجدر الإشارة الى أن ما يسبب الجنون لدى دول الخليج الفارسي وتركيا، أنها قد لا تكون من المدعوين، بل يتحضر البعض منهم، لتقبل واقع أن الصعود الإيراني، لن يجعل منهم لاعبين بعد اليوم. فهم أكثر من يفهم البراغماتية الأمريكية التي تبيع وتشتري. وإن كان حظهم جيداً، فلن يكونوا سوى أوراقٍ سياسية، بيد اللاعبين الجدد. وأفضل حظوظهم، أن يكونوا بيد اللاعب الإيراني، الذي قد يشفق عليهم أكثر من غيره.