الوقت- مع إشتداد الأزمة السورية دخلت روسيا بقيادة "فلاديمير بوتين" بقوة على خط هذه الأزمة قبل أكثر من عام، وذلك من خلال مشاركتها العسكرية الواسعة في ضرب مقرات ومواقع الجماعات الإرهابية ولعب دور أساسي ومفصلي في تغيير مسارات هذه الأزمة.
وبلغت المشاركة الروسية في سوريا حداً، جعل الكثير من المراقبين العسكريين يذعن إلى حقيقة مفادها بأن هذه المشاركة والتي تجلت بوضوح في الضربات الجوية والصاروخية المركزة قد أسهمت بشكل مؤثر وفعّال في تقدم القوات السورية وتحقيق إنتصارات كبيرة على الإرهابيين في مختلف مناطق القتال.
وتعتبر هذه المشاركة الأكبر بالنسبة لروسيا منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية في أربعينات القرن الماضي، وقد أسهمت في تحقيق أمرين مهمين، الأول: إستعادة هيبة روسيا الدولية التي تراجعت كثيراً بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي، والثاني: رفع مستوى التأثير السياسي للكرملين في رسم مستقبل التطورات الإقليمية لاسيّما فيما يتعلق بسوريا الحليف الاستراتيجي لموسكو في المنطقة.
والملفت للنظر أن روسيا قد تمكنت من تحقيق هذا التقدم على الصعيدين العسكري والسياسي في وقت قياسي جداً، رغم التعقيدات الأيديولوجية وتقاطع المصالح بين الأطراف المؤثرة دولياً وإقليمياً، ويعود الفضل في ذلك بشكل كبير إلى الجرأة التي تتمتع بها القيادة الروسية المتمثلة بشخص الرئيس بوتين وذكاء وحنكة طاقمها السياسي الذي يدير العلاقات الخارجية المتمثل بشخص الوزير "سيرغي لافروف".
وتميز التحرك الروسي بالشمولية والانفتاح على كافة الأطراف الفاعلة في صناعة الأحداث في المنطقة وفي مقدمتها الأزمة السورية، ولم يقتصر هذا التحرك على دول محددة كما فعلت أمريكا التي أولت إهتماماً خاصاً ببعض الدول كالسعودية وقطر والكويت لتحقيق مصالحها لكنها لم تتعامل مع أطراف إقليمية أخرى رغم تأثيرها الواضح في رسم مستقبل هذه الأحداث.
وبالرغم من دعم روسيا الواضح لحكومة الرئيس السوري بشار الأسد، إلاّ أن ذلك لم يمنعها من مدّ جسور التفاهم مع الدول الإقليمية التي تسعى لإسقاط الأسد وفي مقدمتها السعودية بهدف إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية. كما نسّقت القيادة الروسية مع الرياض للتوصل إلى تفاهمات بشأن أسعار النفط المتدنية في الأسواق العالمية.
وحتى الكيان الإسرائيلي سعى إلى تحسين علاقاته مع موسكو رغم خلافاته العميقة معها بشأن سوريا، وهذا يعني أن القيادة الروسية قد نجحت في فرض رؤيتها السياسية والعسكرية على هذه الأطراف التي وجدت نفسها مرغمة على التعاطي مع هذه الرؤية على أرض الواقع، وهذا الأمر من شأنه أن يقوي أيضاً الدور الروسي على المدى القريب والبعيد.
ومن أهم التدابير التي إتخذتها القيادة الروسية لرفع مستوى تأثيرها إقليمياً ودولياً هو التنسيق والتعاون البنّاء مع الدول التي تبذل جهوداً كبيرة لمحاربة الإرهاب لاسيّما إيران، وهذا الأمر تبلور بشكل واضح في الآونة الأخيرة حينما سمحت طهران باستخدام "قاعدة همدان" لانطلاق الطائرات الحربية الروسية لضرب الجماعات الإرهابية في سوريا. وهذا التنسيق قد عزّز كذلك من مكانة وقوة الدور الروسي الإقليمي والدولي، وأضعف في المقابل من تأثير الدور الغربي بقيادة أمريكا في المنطقة.
ومن الأمور المهمة الأخرى التي أضعفت تأثير الدور الأمريكي في المنطقة هو عدم قدرتها على التواصل مع الدول المؤثرة والمستقلة في قرإرها السياسي والعسكري لاسيّما إيران، والاكتفاء بتوسيع علاقاتها مع أنظمة مهزوزة سياسياً وأمنياً كالنظام السعودي والبحريني، وهذا الأمر من شأنه أيضاً أن يهدد مصالح واشنطن على المدى البعيد في كافة المجالات.
ومن الأخطاء الاستراتيجية التي إرتكبتها الإدارة الأمريكية في المنطقة هو قيامها بدعم عدد من الجماعات الإرهابية وفي مقدمتها "داعش" و "القاعدة" وهو ما إعترف به العديد من المسؤولين الأمريكيين ومن بينهم المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية "هيلاري كلينتون". وهذا الأمر- التورط بدعم الجماعات الإرهابية من قبل واشنطن- قد فهمته شعوب المنطقة وأدركت أبعاده ومخاطره بشكل جيد، في حين تميز الدور الروسي بمحاربة الجماعات الإرهابية والسعي لإبعاد مخاطرها عن أراضيها وعموم منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، الأمر الذي دفعها للمشاركة بقوة في ضرب الإرهابيين في سوريا في إطار عملية عسكرية هي الأوسع من نوعها منذ خروج القوات الروسية من أفغانستان عام 1989.
ويمكن القول بأنّ الرئيس الروسي قد قرأ جيداً وبشكل واقعي الخارطة الجيو-سياسية في الشرق الأوسط ومكّن بلاده من تعزيز مكانتها الإقليمية والدولية إلى درجة بات معها الكثير من المراقبين يعتقد بأنه لا يمكن التوصل إلى حلول لأزمات المنطقة وفي مقدمتها الأزمة السورية ما لم تتدخل موسكو بشكل مباشر في صناعة هذه الحلول.