الوقت- لا يخفى على المتابع أن الازمة الاوكرانية, إنما هي صورة مصغرة عن صراع غربي امريكي ضد روسيا . ففي هذه البقعة الجغرافية المجاورة لروسيا الاتحادية , ينقسم الداخل الاوكراني بين تيار موال للسياسة الروسية ومعارض لها.
انقسام وصل معه الاختلاف الى حد مواجهة عسكرية بين الحكومة الاوكرانية والجيش مدعوما من امريكا والغرب من جهة وتيار شعبي مدعوم من روسيا ,لا يجد أمامه الا مشروع الاستقلال الجزئي عن الدولة المركزية لتخريج حل للانقسام العمودي القائم بين التوجهين فيما يخص الخيارات السياسية والرؤى لمستقبل الدولة وعلاقاتها وبالتالي انتمائها في المعسكر الدولي القائم.
فأمريكا ويتبعها الغرب عموما , حاضرة في الأزمة بقوة عبر تبني رؤية طرف مقابل طرف اخر , في سياسة تزكية الخلافات الداخلية للدول التي تجد مصلحة في التدخل بشؤونها وعسكرة صراعاتها, ومثل اوكرانيا ورقة رابحة لامريكا لما تشكله من ملف ضاغط على روسيا التي تريدها امريكا ان تكون بديلا عنها في المنطقة بعد الاخفاقات المتتالية لسياساتها.
هذه الانتكاسات السياسية, التي جعلتها تفقد السيطرة والتأثير والتفرد في تحديد ورسم هيكل وشكل العلاقات السياسية والمواقف لأغلب الدول في المنطقة , وما جره هذا الانهيار من ضعف وقصر يدها في المنطقة , الأمر الذي يفتح الباب للدول القوية مثل روسيا للعب دور بديل في الشرق الاوسط, هذا ما ترفضه امريكا التي لجأت الى مشروع الشرق الاوسط الجديد لتفتيت المنطقة وتحويلها الى منطقة صراعات اتنية تدمر مقوماتها وتقضي على كل عناصر القوة الكامنة فيها ,هذا بالاستفادة من تنظيم داعش المشبوه,عبر دعمه وتوجيهه لاسقاط الأنظمة التي كان لها الدور الفاعل في افشال السياسيات الامريكية في المنطقة وعلى رأسها النظام السوري.
إذن , الأزمة الاوكرانية هي ساحة من ساحات الاشتباك بين امريكا والغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى وليست الصورة الكاملة لوجه الصراع , فما هي الا وجه من أوجه المواجهة المبطنة التي لها تاريخ طويل وصلت الى اقصاه في عهد الرئيس بوتين الطامح الى اعادة امجاد روسيا العظمى.
تاريخ الأزمة بين روسيا وأمريكا والغرب :
في عهد الرئيس بوتين بدأت روسيا تستعيد عافيتها من الأزمات الأمنية والاقتصادية التي نشأت منذ تفكك الاتحاد السوفياتي , ولمس الاقتصاد الروسي نموا كبيرا بلغ أضعاف النمو الاقتصادي للدول الاوروبية , واستطاع الرئيس الجديد أن يسد عجز بلاده وديونها في فترة زمنية قياسية , ليصعد مع بوتين نجم روسيا من جديد , ويلمع مستقبل الدولة الاتحادية التي تستعيد دورها الريادي , وتبدأ مع هذا الصعود امارات التحسس الاوروبي الامريكي.
توجه الاوروبيون وامريكا لممارسة سياسة الملاقاة للوقوف في وجه النمو الروسي الاقتصادي الذي يوازيه نشاطا دبلوماسيا روسيا يهدف لاستعادة الدور السياسي في الشرق الاوسط والعالم , وكان هذا الحراك والوضع الجديد بداية تشكل طرف ندٍ لامريكا , حيث عارضت روسيا التي تمتلك حق النقض الفيتو سياسات امريكا في العديد من المواقف حول العالم وكانت هذه البداية.
الصراع الذي بدأه الغرب وامريكا لتحجيم روسيا ومنعها من بلوغ مستوى كبير من المؤثرية والقدرة , اتخذ اوجه متعددة صامتة , لكنه سرعان ما اتخذ وجها عسكريا أمنيا بدأ عبر ما عرف بنشر الدرع الصاروخي الامريكي حول روسيا, حيث اطلقت امريكا برنامجا اسمته نشر الدرع الصاروخي الوقائي, وفق ادعائها لحماية حلفائها وأمنها الاستراتيجي من تهديد الصواريخ الباليستية عموما, لكن الواضح كان انه موجه ضد روسيا. الأمر الذي رفضته روسيا التي جهدت في تطوير اسلحتها الصاروخية الهجومية ومنظوماتها الدفاعية كما لجأت الى تسليح حلفائها في المنطقة بالاسلحة الكاسرة للتوازن كرد على السلوك العدائي الامريكي الاوروبي تجاهها.
فضلا عن حرب أمنية تجلت بكشف العديد من شبكات التجسس التابعة للطرفين في أمريكا وروسيا وتبادل الاتهامات بين البلدين حول التجسس والاستهداف الامني وهذا ما أجج الصراع أكثر فأكثر.
بعدها اتخذ الصراع وجها صداميا اكثر وضوحا , ظهر في ازمة جورجيا التي جرت روسيا نحو اجراء عسكري لمنع سقوط البلد في ايدي المعارضة التي تتبع لامريكا , وما تمخض عن هذه المواجهات من تواجد كبير وفاعل للموساد الاسرائيلي والسلاح الاسرائيلي الذي تم ضبطه اثناء القتال , وهذا ما زاد في حدة المواجهة وأظهر الدور الاسراامريكي في الأزمة وهذا ما اعتبرته روسيا تحديا دفعها لحسم الامور عسكريا في جورجيا وانهاء الانقسام.
لكن ملف جورجيا وفشل المؤامرة على روسيا , انتقل الى صراع مماثل على الاراضي السورية. فالنظام السوري الذي استهدف من قبل الغرب وامريكا والكيان الاسرائيلي ) و العربان الموالين لهم , يشكل نقطة حساسة جدا بالنسبة للتواجد الروسي في قلب العالم. وباسقاط النظام السوري تخسر روسيا اخر موطئ قدم لها في المنطقة وهذا ما يبعدها عن المؤثرية في المنطقة الاكثر حيوية في العالم , وباتت قضية اسقاط النظام السوري سلاحا جديدا موجها بوجه روسيا وايران.
هذه القضية شكلت خطا احمرا لروسيا, فمع دخول الازمة السورية الى مرحلة من الاحتدام والانتقال الى محاربة النظام بالسلاح بعد فشل ستار الثورة المبطن , وسط شعبية كبيرة يتمتع فيها الرئيس السوري حالت دون اسقاطه في الشارع أوعبر العملية السياسية , فلوحت امريكا والغرب باللجؤ الى الخيار العسكري لاسقاط النظام , اضطرت حينها روسيا لاستخدام حق النقض الفيتو لاسقاط مشاريع قرارات متعددة تطالب بالتدخل العسكري وقامت بتقديم الدعم للنظام السوري على عدة مستويات, للحفاظ على تماسك الدولة السورية أمام هذا التحدي, الامر الذي اوصل المواجهة المتراكمة بين روسيا من جهة والغرب وامريكا من جهة اخرى الى حده الاقصى.
الموقف الروسي من الازمة السورية , يضاف اليها الطموح الروسي لاستغلال التردي الحاصل في القدرة الامريكية والتخبط الناتج عن فشل سياساتها في المنطقة , ونتائج الصراع السوري الذي افشل مخطط اسقاط النظام وبالتالي الرهانات الغربية الامريكية لاقتلاع اليد الايرانية الروسية في سوريا باءت بالفشل, كل هذا استدعى امريكا لأن تلجأ لقديم عاداتها في التفكير بخلق ملف ضاغط على روسيا يضعف موقفها ويشغلها عن الازمة السورية وعموم ما يحصل في الشرق الاوسط .
فكانت اوكرانيا , ضحية جديدة في فك المصالح الاوروبية الامريكية , مصير بلد اشتم فيه الذئاب رائحة الاختلاف , فحولوه انقساما , وبعدها بدأ صراع الذئاب فيما بينهم على الفريسة. فامريكا واوروبا تتوافقان على تأديب روسيا عبر اوكرانيا لمنعها من السيادة , ولكنهما تتقابلان في كيفية التأديب , فمنهم من قال بالضغوط الاقتصادية وتقوية الجيش الاوكراني لمنع سيطرة الدفاع الشعبي , ومنهم من قال لجعل اوكرانيا سوريا الجديدة واستجرار روسيا نحو حرب طويلة الأمد تمهد لاضعافها تمهيدا لحرب عسكرية عليها.
بين اختلاف الذئاب حول كيفية الانقضاض , تبقى الفريسة فريسة , وتبقى اللعبة الدولية حرب ذئاب بامتياز ينقضون على الضحية هنا وهناك , وأخطر ما في هذه اللعبة , أن الضحية تستدرج لتعرض نفسها على ذئب ليحميها فما تلبس أن تدرك أنها بين فكي من أمنته على حمايتها.
أوكرانيا بين فك اوروبا وامريكا , احداث اظهرت نوايا امريكية واضحة بجعل الملف الاوكراني ملفا دمويا على شاكلة الملف السوري , وسط اختلاف واضح مع الدول الاوروبية حول مقاربة الأزمة , اختلاف زاد اتساعه مع اتفاق مينسيك الاخير فما هو السيناريو الامريكي لأوكرانيا في الجزء الثاني من الازمة الاوكرانية التي أصبح مصيرها متأرجحا في بازار المصالح الغربية الامريكية.