الوقت- بعد مغادرة الرئيس الأمريكي السابق "جورج بوش الإبن" وتولي بارك أوباما إدارة البيت الأبيض دخلت السياسة الخارجية الأمريكية مرحلة جديدة تميزت عن سابقتها بعدّة مميزات يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي:
وقبل الخوض في تفاصيل هذه السياسة لابدّ من التذكير بأن أوباما قد ورث تركة ثقيلة نتيجة التدخل العسكري الأمريكي في مناطق متعددة من العالم لاسيّما في أفغانستان والعراق، ولهذا وجد من الضروري إحداث تغييرات في السياسة الخارجية وإعادة التموضع من خلال "التراجع التكتيكي" من بعض النقاط الساخنة، وتقليل النفقات العسكرية وتقليص المخاطر المحتملة، وتحويل الأعباء بشكل شبه كامل على الحلفاء وتمكينهم من المبادرة.
ألف) حدود القوة الأمريكية وتحديد الأولويات
إعتقد أوباما بأن السياسة الخارجية الأمريكية لم تكن متوازنة، وسعى إلى إستعادة التوازن على عدّة جبهات، ولذلك وضع نصب عينيه تطوير إلتزامات مستدامة في الشرق الأوسط تكون متوازنة مع مصالح أخرى. إمّا علناً أو من وراء الكواليس.
ووفقاً لذلك، يُظهر سجل أوباما تفضيله لأدوات القوة الأمريكية الأكثر دقة وسرية، مثل هجمات الطائرات بدون طيار والعمليات الخاصة والعقوبات المحددة الأهداف. ويعترف أوباما أيضاً بضرورة التعلم من أخطاء السياسة الخارجية الأمريكية وأهمية تصحيح مسارها بين الحين والآخر.
ولعل أهم المفاهيم التي يجب تلمسها في رؤية أوباما تكمن في أنه أمسك عن طرح رؤية لسياسة خارجية توسعية، وفضّل أن يلتزم بالاعتبارات العملية والظروف المتغيرة. فعندما سئل في نهاية فترة رئاسته الأولى عن توصيف "مبدأ أوباما"، أجاب: "هو قيادة أمريكية تعترف بنهضة دول مثل الصين والهند والبرازيل"، أي أنه أقرّ بأن أمريكا بدأت تدرك أبعاد حدودها من حيث الموارد والقدرات.
ب) الترويج للديمقراطية الأمريكية
على الرغم من الإعتقاد السائد بأن أمريكا أخذت تنسحب من الشرق الأوسط وتتحول نحو آسيا في عهد أوباما، إلاّ أن الخطاب الذي ألقاه الأخير في القاهرة عام 2009 أظهر طموحاً كبيراً لتعزيز العلاقات بين واشنطن والمنطقة من جديد، وهو ما ظهر بشكل أوضح خصوصاً بعد إندلاع أحداث ما عرف بـ "الربيع العربي" عام 2011 والتي رأى فيها أوباما فرصة للتغيير تسمح بالتضحية بالعملاء كالرئيس المصري الأسبق حسني مبارك من أجل الترويج للديمقراطية الأمريكية، وكذلك من أجل سدّ النقص الحاصل جراء تراجع القدرات المتاحة للإستمرار في بسط النفوذ في المنطقة وما يتطلبه ذلك من تكلفة إقتصادية عالية نتيجة التدخل العسكري. فأوباما يدرك جيداً أن التخلي الكامل عن الشرق الأوسط سيفضي إلى إختلال في التوازنات القائمة، وهكذا، كان ضرورياً أن تبارك واشنطن لبعض فصول الربيع العربي إلى درجة أرغمت أوباما على أن يكون أكثر إهتماماً بالمنطقة مع نهاية الفترة الأولى له في البيت الأبيض.
وكان أوباما طوال سنواته الأربع الأولى في الحكم يكرر إلتزامه بالتقارب مع المسلمين وتغيير مواقفهم السلبية تجاه أمريكا. وفي خطابه بجامعة القاهرة في يونيو/حزيران 2009 لمس أوباما التحديات الحرجة، وطرح طريقة جديدة لإدارة العلاقات بين واشنطن والعالم الإسلامي، وكان عليه أن يصلح الدمار الذي ألحقته إدارة بوش بهذه العلاقة وتغيير الصورة النمطية التي شكلتها زيارات متتابعة لرؤساء أمريكيين إلى الشرق الأوسط، كانوا ينظرون دائماً من منظور الحرب الباردة، والممارسات الجيوبوليتيكية، و"أمن إسرائيل" وكيفية الإستحواذ على ثروات المنطقة لاسيّما النفط.
في الوقت نفسه، يعتقد أوباما أن بعض مشاكل المنطقة ليست قابلة للحلول الأمريكية، وليس ذلك بالمستغرب نظراً للتبعات المؤلمة التي خلّفتها الحروب الأمريكية لاسيّما في العراق وأفغانستان. ولا تزال التجربة العراقية تلقي بظلالها على حسابات أوباما.
وصحيح أن السياسة الخارجية الأمريكية لا يرسمها الرئيس وحده، فهي محصلة تقاطع بين إتجاهات وأفكار التركيبة المهيمنة على الكونغرس، والفريق الرئاسي بالبيت الأبيض. لكن الرئيس يملك مساحة من الحركة، خصوصاً في كيفية تطبيق التوجهات العامة التي تتأثر إلى حد بعيد بطبيعة شخصيته وأسلوبه في الحكم.
ففي مايو 2010، أعلن أوباما عمّا أسماه "إستراتيجية الأمن القومي" التي كشفت عن إتجاه واشنطن إلى تركيز إهتمامها الخارجي (العسكري والإقتصادي خصوصاً) إلى الشرق الأقصى. وشهدت السنوات الخمس الماضية تجليات هذا النزوع الأمريكي بإنحسار الإهتمام بقضايا وتطورات مناطق أخرى من العالم. وتعاملت واشنطن مع التطورات الإقليمية، كأزمة أوكرانيا بمنطق ردّ الفعل، وحسابات الخطوة الثانية، وليس المبادأة الهجومية كما كانت سياسة بوش الإبن، أو ما عرف بـ "الإستباق الوقائي" كما في عهد الرئيس الأسبق "بيل كلينتون".
ج) محاربة الإرهاب
نظرية إدارة أوباما بالنسبة لمحاربة لإرهاب، أو هكذا تروّج، هي أنها إنْ لم تستطع أن تحتويه في منطقته فإنه سيمتد إلى أمريكا، ولذلك لابدّ من التعاطي مع مشكلة الإرهاب على أرضه بأسلوب جديد وهو إستهداف الطائرات بدون طيار، والعمل الإستخباراتي والتعاون الأمني عوضاً عن التدخل العسكري المباشر الذي كلف أمريكا الكثير.
وشهدت قبضة أوباما في الشرق الأوسط الكثير من التراخي فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب، وهذا لم يكن من فراغ؛ بل بسبب ضغوطات تقليص الميزانية وإعادة نشر القوات الأمريكية.
وقد خلفت إستراتيجية أوباما في مكافحة الإرهاب، خيبة أمل وإحساساً متعمقاً بالإرهاق لدى الرأي العام. فهذه الإستراتيجية تنقصها الدراسة الشاملة والمعرفة الدقيقة بتفاصيل المناطق التي يعصف بها خطر الإرهاب.
وما يشهده العالم اليوم من موجات إرهابية، تتحمله السياسات الأمريكية في المنطقة، رغم تورط أطراف أخرى بإثارة حالات عدم الإستقرار وتأجيج المواجهات الطائفية. ويعكس إستعراض الأرقام وإحصائيات ضحايا الإرهاب خلال السنوات الأخيرة، حجم الآثار السلبية لسياسات واشنطن في مواجهة هذا الخطر.
د) القيادة من الخلف والدبلوماسية الناعمة
إرتكزت التحولات الهيكلية في السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط خلال فترتي رئاسة أوباما على ما يمكن أن نسميه "القيادة من الخلف" والإحتواء الناعم للتهديدات، وإلقاء المسؤولية على الحلفاء في تسوية الصراعات، والترويج لإطروحات تقاسم النفوذ، بالتوازي مع رفض التدخل الأمريكي في الصراعات الإقليمية.
وترسخت لدى أوباما قناعة بأن أمريكا لم يعد بإمكانها القيام بأدوار منفردة في كافة بؤر الصراعات المحتدمة في العالم، ومن ثَمَّ بات عليها إتباع نهج "القيادة من الخلف" في بعض الصراعات التي لا تحظى بأولوية قصوى بالنسبة لمصالحها الحيوية على غرار التدخل العسكري في ليبيا عام 2011، وهو ذات الإتجاه الذي تكرر خلال العمليات العسكرية ضد الجماعات الإرهابية ومن بينها تنظيم "داعش" في العراق، حيث فضّلت الإدارة الأمريكية التحرك ضمن تحالف دولي لمحاربة هذا التنظيم، وعدم الإنخراط بصورة منفردة في مواجهة عسكرية مباشرة، وذلك من خلال تدريب الحلفاء المحليين، وإعادة تأهيلهم عسكرياً لتحمل تكلفة خوض المواجهة العسكرية دون إنتظار التدخل الأمريكي المباشر.
وترجمةً لهذه السياسة قرر أوباما أن تبقى واشنطن بمنأى عن الإنخراط في الصراعات القائمة في مناطق عديدة بالشرق الأوسط، وتقليص التدخل العسكري والتعويل على الجهود الدبلوماسية والإكتفاء بدور "القيادة من الخلف" تاركاً لحلفائه الأطلسيين إنجاز باقي المهمة عسكرياً كما حصل في ليبيا التي تُركت فيما بعد ليؤول حالها إلى ما هو عليه اليوم.
ويرى أوباما أن السياسة الخارجية الأمريكية إستنزفت قدراً كبيراً من الموارد والإهتمام الأمريكي على مدار العقود الماضية، وأن حلفاء واشنطن يسعون لاستغلال قوتها لتحقيق مصالحهم الذاتية، ولهذا كرر رفضَه لوجود ما أسماه "راكبين مجانيين" يسعون لاستغلال القوة الأمريكية لتحقيق مصالحهم، وتجلَّى هذا الرفض لتحمل الأعباء والتكاليف والمخاطر عن الحلفاء من خلال التأكيد على نهج تعددي يستند لتفويض دولي وتشارك الدول الحليفة في كافة مراحل العمليات العسكرية ومسؤوليات ما بعد التدخل كما حصل في ليبيا.
وفي الواقع، لم يخرج أوباما عن الإجماع في السياسة الخارجية لواشنطن، إذ إن منهجه يتسق مع منهج الجمهوريين، لكنه يفهم جيداً حدود القدرة الأمريكية، ويتخذ موقفاً أكثر وضوحاً في معارضته لتقديم إلتزامات عسكرية غير مشروطة في الخارج.
وطوال فترة رئاسته، كان أوباما يهدف إلى الحفاظ على الوضع القائم في الشرق الأوسط مع بعض التغييرات. ورغم أنه عالج بعض أسوأ التجاوزات الأيديولوجية للسياسة الخارجية لإدارة جورج بوش، إلاّ أنه لم يتمكن إلاّ من إعادة أمريكا إلى موقعٍ وسطي حذر.
وبإستقراء خلفيات المواقف الأمريكية، يمكن العثور على عدد من العناصر التي تقف وراء التذبذب الذي يميز سلوك وخطاب إدارة أوباما. ويأتي في مقدمة ذلك إقتراب خروجه من البيت الأبيض مع الإستعداد للإنتخابات الرئاسية المقبلة، وما يعنيه ذلك من الحرص على تحقيق إنجاز يحسب له على الصعيد الشخصي، ويساعد الحزب الديمقراطي في كسب السباق الإنتخابي.