الوقت- إن السياسة الأمريكية القائمة على خلق الأزمات في العالم هي التي تسعى دوماً لعسكرة الجبهات السياسية، علَّها من جهة، تزيد من نفوذها في الدول، ومن جهةٍ أخرى، تروِّج لبضاعة الحرب في أسواقها المفتعلة. لذلك نجد دوماً الحلول الأمريكية التي تسير بها أمريكا وحلفاؤها في العالم والمنطقة، حلولاً لا تكون نتائجها، إلا إنقساماتٍ بين الشعوب ومشاكل بين الدول. وتشكل الأزمة الأوكرانية أحد أهم الأمثلة التي تبيِّن حجم تضارب المصالح بين الأطراف الخارجية وتزايد الصراع بين الدول الكبرى، التي تحاول تحت حجة إدارة الأزمة، زيادة نفوذها في أوكرانيا. وأينما وجد الخراب حلّت أمريكا وحلفاؤها. فما هو دور أمريكا والدول الأوروبية في الأزمة الأوكرانية؟ وكيف أثر هذا الدور على الدولة الأوكرانية؟ وكيف ربحت روسيا في النهاية؟
أولاً: قراءة في التحولات وصولاً لإتفاق مينسك، ومحاولة أمريكا عرقلته:
إن التحولات الحاصلة عالمياً نتيجة الصراع بين الدول الكبرى، وبروز خلاف أميركي - أوروبي على خلفية الأزمة الأوكرانية، والتي باتت موضع صراعٍ حاد بين كل من روسيا من جهة والدول الغربية وامريكا من جهةٍ أخرى، أدت لحصول أحداث كثيرة كشفت عن وقائع جديدة.
ففي الوقت الذي أعلن فيه حلف الناتو نشر بعض قواته في دول شرق أوروبا، ردت موسكو عبر الرئيس الروسي بوتين باستدعاء قوات الإحتياط وإعلانه الجهوزية للحرب مع الناتو في حال دفع الأمور بهذا الإتجاه، ما أشار الى إشتداد الصراع بين الدول الغربية وروسيا ووصوله إلى حافة الحرب. الأمر الذي دفع المانيا، الدولة الأوروبية الأكثر حساسية لما يجري من تطورات، إلى استنفار دبلوماسيتها لمنع انزلاق الأوضاع إلى الحرب، وإبقاء أبواب التسوية السياسية مفتوحة. وهو ما تمثل بإعتراض المستشارة الألمانية انغيلا ميركل على تسليح الحكومة الأوكرانية والتأكيد على العمل على تكثيف الجهود الدبلوماسية لحل الأزمة، ومن ثم الذهاب إلى امريكا والإجتماع مع الرئيس الأميركي باراك أوباما وإقناعه بالتراجع عن خطوته التصعيدية بتسليح الجيش الأوكراني بأسلحة نوعية.
لقد أدى هذا التطور إلى إبعاد أجواء التوتر مع روسيا وتوصل الرباعية الأوكرانية، الروسية، الفرنسية، الألمانية إلى اتفاق مينسك لوقف النار وسحب الأسلحة الثقيلة إلى مسافات بعيدة عن مناطق القتال والتمهيد لمفاوضات لإيجاد حل للأزمة على قاعدة إقرار قانون بشأن خصوصية منطقة الدونباس (شرق وجنوب أوكرانيا)، وإجراء انتخابات محلية فيها، وكذلك إجراء اصلاحات على الدستور الأوكراني تضمن حقوق سكان المنطقة. الأمر الذي بدا أنه إستجابة واضحة لوجهة النظر الروسية وهو ما عكس تراجعاً أوروبياً، لمصلحة موسكو. ولكن ماذا جرى بعد الإتفاق وكيف حاولت أمريكا وحلفاؤها عرقلته؟
- قامت واشنطن بالتشكيك بتطبيق الإتفاق من قبل روسيا والموالين لها.
- عملت أمريكا والكيان الإسرائيلي على تحريض الموالين لها في أوكرانيا لأجل وضع العراقيل أمام تنفيذ الاتفاق. وهو ما تمثل بتحرك اليمين المتطرف والفاشي في أوكرانيا والمؤيدين له في البرلمان وداخل الجيش لتفجير الإتفاق عبر عرقلة الإلتزام بوقف النار ورفض سحب الأسئلة الثقيلة، بعد أن أعلن زعيم تنظيم "القطاع الأيمن" الأوكراني المتطرف، دميترى ياروش، إن تنظيمه ومقاتليه المشاركين في العملية العسكرية بجنوب شرق أوكرانيا "لا يعترفون باتفاقية مينسك الأخيرة، وأن القطاع الأيمن يعتبر أي اتفاق مع الإرهابيين الموالين لروسيا، لا يملك أي صفة قانونية وأنه يتعارض مع الدستور الأوكراني وتطبيق ما جاء فيه لا يعتبر ملزما لمواطني أوكرانيا". في الوقت الذي قامت الحكومة الأوكرانية بإبعاد الصحفيين الروس عن كييف.
- فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات جديدة على روسيا تضمنت وضع لائحة جديدة تشمل مقاطعة أشخاص وكيانات بتهمة ضلوعهم بالنزاع في أوكرانيا، وهو ما علقت عليه موسكو بالقول انه "لم يراع الحس السليم" وأنها سترد بشكل مناسب على هذه العقوبات الجديدة.
ثانياً: فشل العرقلة الأمريكية في ظل الواقع الموجود:
على الرغم من هذه المحاولات التي قامت بها أمريكا وحلفاؤها، لنسف الاتفاق إلا أن هناك العديد من العوامل التي تجعل الدول الغربية مضطرة إلى العودة للضغط على كييف للالتزام بإتفاق مينسك، كما فعلت قبيل توقيع الاتفاق، وهي:
- إن محاولة واشنطن ومن خلال تحريضها، سعت لإستغلال الأزمة لإثارة صراع بين الدول الغربية وروسيا، وجعلها تتنازع اقتصاديا وجيوسياسيا، بهدف استنزاف روسيا واضعافها، مما بات يأتي بنتائج عكسية على أوروبا التي تعاني من تصاعد في أزماتها الاقتصادية والمالية، وبالتالي فان استمرار التوتر مع روسيا وفرض العقوبات عليها لا يلحق الضرر بالاقتصاد الروسي فقط بل وأيضا بالاقتصاديات الغربية ولا سيما المانيا. مما جعل الدول الأوروبية تسعى لحث الأطراف على الإلتزام بالإتفاق منعاً لإنعكاس الأمور عليهم سلبياً.
- شعور الدول الأوروبية أن أمريكا لا يهمها إنعكاسات الأزمة الأوكرانية عليها، الأمر الذي أدى الى إيجاد خلافات بين الدول الأوروبية وأمريكا، في ظل تماسك لروسيا وحلفائها في شرق وجنوب أوكرانيا، مما جعل الدول الأوروبية وبالتحديد ألمانيا، تذهب لمعارضة التصعيد الأمريكي، والبقاء على الإتفاق مع روسيا.
- عدم نجاح الرهان الأمريكي والأوروبي بإنزلاق روسيا للتورط عسكرياً في أوكرانيا. فالمعارضة التي تدعمها قوية وتستند إلى تأييد السكان في المناطق الشرقية والجنوبية. فموازين القوى في الميدان التي باتت تميل لصالح قوات الدفاع الشعبي المدعومة من روسيا، حيث سيطرت هذه القوات المعارضة على مدينة ديبالتسيف الإستراتيجية، مما أثار قلق أميركا والدول الغربية من إنهيار الاتفاق والمطالبة بالالتزام بتنفيذه.
إن الإنعكاسات الجديدة للصراع الدولي، والذي انعكس سلباً على واقع العلاقات الدولية لا سيما بين أوروبا وأمريكا، إنعكس بصورة سلبية أيضاً على الدولة الأوكرانية، والتي ضاعت بين التوجهات الأوروبية الهادفة للمحافظة على إقتصاد أوروبا من جهة، وبين التوجهات الأمريكية الهادفة لضرب روسيا من خلال الأزمة الأوكرانية. وهنا يأتي السؤال: كيف يمكن للدولة الأوكرانية الخروج من هذه الأزمة، وهي التي وضعت نفسها رهينة التجاذبات الخارجية الكبرى؟