الوقت - لم يكن في تصور أكراد سوريا قبل العام 2011 أي مشروع حكم ذاتي على الأراضي السورية، فالدعوات الانفصالية الكردية كانت متواضعة نوعاً ما في سوريا، قياساً إلى كل من العراق وتركيا وإيران، بفعل أن غالبية الأكراد في سوريا كانوا من المهاجرين من تركيا بعد الحرب العالمية الأولى في عام 1925، وأقصى ما كانوا ينادون به الحصول على حقوق المواطنة السورية، فيما كان يسمى قضية "غير المجنسين الأكراد" التي تعود إلى عام 1962 حيث كان جزء كبير من الأكراد في سوريا مسجلين كأجانب.
بعد اندلاع الأزمة في سوريا، كان من جملة الاصلاحات التي قامت بها الدولة السورية منح الجنسية السورية للأكراد غير المجنسين، كما قامت الدولة السورية بتسليح اللجان الشعبية الكردية لحماية أنفسهم ومناطقهم من الهجمات الارهابية، وبموجب اتفاق بين الطرفين منحت الأكراد نوعاً من الإدارة الذاتية على مناطقهم.
إلا أن الأطماع الانفصالية لأكراد سوريا، بدأت تظهر بشكل واضح بعد معركة تحرير مدينة عين العرب (كوباني) من سيطرة تنظيم داعش الارهابي، والتعاطف والاعتراف الدولي الذي لاقته قوات الحماية الكردية في ذلك الحين، وتوطد العلاقة بينهم وبين الإدارة الأمريكية، وانفتاحهم بشكل أكبر على أكراد حزب العمال الكردستاني في تركيا وقوات البيشمركة في العراق، وأصبح تحقيق مشروع "روج آفا" أو الحكم الذاتي الكردي في شمال سوريا، فرصة سانحة أمام القوات الكردية، حيث يقوم هذا المشروع على وصل المناطق ذات الغالبية الكردية في الحسكة وعين العرب وعفرين ببعضها البعض، وتشكيل حكم ذاتي على كامل المنطقة الممتدة من الحسكة إلى عفرين.
بالنسبة لأمريكا شكلت قوات الحماية الكردية، القوات البرية التي اعتمدت عليها في المعارك ضد تنظيم داعش الارهابي، حيث كان لهذه القوات الدور في إعطاء أمريكا صفة محاربة داعش، وبالتالي شرعنة وجودها في المنطقة، وبالرغم من المعارضة الشديدة التي أبدتها تركيا تجاه تمدد نفوذ الأكراد على حدودها الجنوبية، وتخييرها لأمريكا بينها وبين الأكراد، لم تتوقف أمريكا عن تقديم الدعم للأكراد، الأمر الذي شجع الأكراد أكثر على المضي في مشروع ربط الأقاليم الكردية ببعضها، عبر التوجه غرباً والسيطرة على منبج، واعلان معركة مدينة الباب، من أجل وصل منطقة كوباني بمنطقة عفرين.
ولكن اليوم وبعد التوغل العسكري التركي في الأراضي السورية، والذي جاء للحد من التمدد الكردي، والموقف الأمريكي الداعم لهذا التوغل، يتبادر إلى الاذهان السؤال عما إذا كانت أمريكا قد تخلت حقيقة عن دعمها للأكراد ارضاء لتركيا؟ وهل هذا الموقف الأمريكي تجاه الصراع بين حلفائها الأكراد وحلفائها الأتراك، هو موقف استراتيجي أم مجرد موقف تكتيكي؟ وهل أمريكا حقيقةً مهتمة بوحدة سوريا وتركيا ومنع قيام إقليم كردي مستقل فيها، كما صرح مسؤولوها خلال الأيام القليلة الماضية؟
الإجابة هي أن تركيا ليس لديها هدف استراتيجي بمنع أو تشجيع قيام دويلة كردية في المنطقة، بل إن السياسة الأمريكية تقوم على خلق الأزمات لإضعاف الحلفاء والخصوم وتطويعهم وإبقائهم تحت السيطرة، وملف الأكراد بالنسبة لها، لا يتعدى وسيلة لتحقيق هذه السياسة.
الرسائل المتناقضة التي أرسلتها أمريكا منذ بدء التوغل التركي في الأراضي السورية، تكشف المخطط الأمريكي الهادف إلى ترويض تركيا بعد الاستدارة نحو روسيا وإيران، بعد الانقلاب التركي الفاشل، وذلك من خلال استخدام الأكراد لهذا الغرض، حيث أن هذا الاستخدام لم يكن الأول من نوعه، ففي حزيران 2015 دعمت أمريكا قوات الحماية الكردية للسيطرة على مدينة تل أبيض الواقعة بين الحسكة وعين العرب (كوباني)، والذي شكل الخطوة الأولى نحو مشروع "روج آفا"، وذلك من أجل الضغط على تركيا للدخول في التحالف الأمريكي ضد داعش، وهو ما حدث بالفعل.
واليوم يبدو أن أمريكا نجحت مجدداً في دفع تركيا نحو المستنقع السوري عن طريق الورقة الكردية، فبعد خمس سنوات من الاحجام عن التدخل العسكري المباشر في الأزمة السورية، واعتمادها على الجماعات المسلحة الموالية لها، ورفض التدخل المباشر منفردة لتحقيق هدف المنطقة الآمنة والاصرار على ضرورة أن يكون تشكيل المنطقة العازلة في إطار التحالف الدولي لمحاربة داعش، أو في إطار قرار صادر عن مجلس الأمن، ها هي الدبابات وقوات المشاة التركية تجتاز الحدود السورية وتطلق معركة "درع الفرات" بالتعاون مع حلفائها من الجماعات المسلحة انطلاقاً من مدينة جرابلس السورية.
وقد بلغ عدد الدبابات التي توغلت في الأراضي السورية بعد أربعة أيام من انطلاق العملية، أكثر من 50 دبابة، وفق صحيفة "حريت" التركية فيما وصل عدد قوات المشاة التركية المشاركة في العملية 380، سقط منهم قتيل واحد على الأقل خلال الاشتباكات التي حصلت مع قوات سوريا الديمقراطية في المنطقة، ونفذ الطيران التركي غارات على قرية العمارنة جنوب مدينة جرابلس أدى لسقوط عدد من المدنيين. وقد شهدت قريتا العمارنة ويوسف بيك اشتباكات مباشرة بين القوات الخاصة التركية وقوت سوريا الديمقراطية، بينما قتل أكثر من عشرين مدنياً على الأقل في قرية جب الكوسا جنوب جرابلس نتيجة للقصف المدفعي والجوي التركي.
ويبدو أن الصدامات بين القوات التركية وقوات سوريا الديمقراطية بدأت تأخذ مساراً تصعيدياً، في ظل الاشتباكات المباشرة التي وقعت بين القوات الخاصة التركية مع قوات مجلس جرابلس العسكري التابع لقوات سوريا الديمقراطية.
وقد طالبت أمريكا قوات الحماية الكردية الانسحاب إلى غرب نهر الفرات، وهددت بأنها ستخسر الدعم الأمريكي ما لم تستجب لدعوات الانسحاب إلى غرب الفرات. ولم يصدر أي تعليق أمريكي حول الغارات الجوية التركية التي طالت مناطق مدنية لحلفائها الأكراد.
إلا أن هذه المؤشرات لا تعني بالضرورة، تخلي أمريكا عن دعم حلفائها الأكراد، والاستسلام لإجهاض مشروع "روج آفا"، حيث ستكون أمريكا حاضرة للتهدئة المشروطة، وسيكون الشرط الذي ستضعه أمريكا أمام تركيا، هو التراجع عن مواقفها المتقاربة مع روسيا وإيران. ويبدو أن سياسة ابتزاز تركيا بالأكراد ستتواصل من قبل الإدارة الأمريكية حسب الظروف والمتغيرات، إلا أن الضحية الأكبر في هذه السياسة سيكون بلا شك الأكراد الذين تستغلهم أمريكا وتضعهم في مواجهة مع محيطهم في سبيل تمرير مصالحها في المنطقة.