الوقت- متغيرات متسارعة ألقت بظلالها على أوضاع المنطقة الملتهبة، وساهمت في خلط الكثير من الأوراق على الساحتين السورية والتركية بشكل خاص، فالحكومتين السورية والتركية، وبعد قطيعة وصلت حد العداء، تجدان اليوم ما يفرض عليهما تقارباً ضرورياً، بحكم المصلحة المشتركة، والأمن المشترك وهو ما لم يكن وارداً حتى أمد قريب.
وقد جاءت الاشتباكات الأخيرة في مدينة الحسكة السورية بين القوات الحكومية وقوات الأسايش الكردية، والموقف الحازم الذي اتخذته الدولة السورية ضد تحركات القوات الكردية في المدينة، لتشكل عامل تقارب إضافي بين تركيا وسوريا، تضاف إلى عوامل التقارب الأخرى المتمثلة بالاستدارة التركية نحو حلفاء الدولة السورية، وفتور علاقتها مع رعاة المعارضة المسلحة، وذلك على خلفية مواقف تلك الدول من المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا.
حيث شكل التعاطف الذي أبدته كل من أمريكا والدول الغربية والسعودية تجاه المحاولة الانقلابية في تركيا، صدمة للرئيس أردوغان الذي لم يتوقع من حلفائه هذه الطعنة في الظهر، في حين وقفت الدول المؤيدة والحليفة للدولة السورية، موقفاً متضامناً مع الدولة التركية المنتخبة، الأمر الذي دفع تركيا للقيام بمراجعة شاملة لتحالفاتها، وتمتين علاقاتها مع روسيا وإيران. وقد كانت الزيارة التي قام بها الرئيس التركي إلى مدينة سانبطرس بورغ في روسيا ولقائه نظيره الروسي فلاديمير بوتين علامة فارقة في هذا المجال، كما أن الزيارة المرتقبة للرئيس التركي إلى إيران الاربعاء المقبل، تعتبر استكمالاً للاستدارة التركية نحو روسيا وإيران. ولا شك بأن هذه التحولات بدأت تترك آثارها على الأوضاع في سوريا، في ظل تصور مشترك لتشكيل حلف ثلاثي روسي- ايراني- تركي لحل الأزمة السورية.
هذا التقارب التركي- الروسي و التركي- الإيراني، جاء بالتزامن مع تقارب استراتيجي بين روسيا وإيران، فبعد زيارة مستشار الرئيس الروسي لشؤون الشرق الأوسط إلى طهران، تم الاعلان عن تعاون عسكري غير مسبوق بين الجانبين، حيث جرت الاتفاق على تموضع لقاذفات روسية في قاعدة همدان الجوية في إيران، لتقوم هذه القاذفات بتنفيذ عمليات جوية ضد تنظيم داعش الارهابي وبقية التنظيمات الارهابية في سوريا.
أكثر ما يسترعي الانتباه خلال ما جرى ويجري هذه الأيام، أنه في الوقت الذي كانت القاذفات الروسية تضرب مواقع داعش والجماعات الارهابية انطلاقاً من محطة نوجة في همدان، كان الطائرات السورية ولأول مرة منذ اندلاع الأزمة في سوريا، تقصف مواقع قوات الأسايش الكردية في مدينة الحسكة السورية، في تطور غير مسبوق.
وتعتبر تركيا القوات الكردية في الشمال السوري، تهديداً لأمنها القومي، وتصنفها على أنها جماعات ارهابية تابعة لحزب العمال الكردستاني (ب ك ك)، ولطالما أبدت تركيا مخاوفها من التمدد الكردي على الشریط الحدودي مع سوريا، حيث تمكنت قوات الحماية الكردية بدعم أمريكي، التمدد غرباً من كوباني باتجاه منبج، والسيطرة على المدينة، لتعلن بعدها نيّتها تحرير مدينة الباب من داعش، وهي المنطقة الوحيدة المتبقية للوصول إلى عفرين ووصل الأقاليم الكردية السورية ببعضها. الأمر الذي تجد تركيا فيه خطوة ممهدة لانفصال الأقاليم الكردية التركية، وتشكيل كيان كردي على حدودها الجنوبية.
وقد جاء الصدام بين الدولة السورية والقوات الكردية في الحسكة على خلفية خطوات تصعيدية قامت بها الأخيرة، لعزل مواقع الجيش السوري عن المدينة، حيث قصفت مواقع الجيش السوري والمدنيين بالأسلحة الثقيلة، الأمر الذي وجدت فيه الدولة السورية محاولة لإنهاء وجودها في المدينة، وطعناً في الظهر نظراً لأن السلاح الذي تمتلكه المجموعات الكردية كانت الدولة السورية هي من زودتهم به لحماية أنفسهم من داعش، إلا أن استخدام هذا السلاح ضد الدولة السورية، والاستعانة بمقاتلين أكراد متشديين من جبال قنديل في تركيا يعتبر تصعيداً خطيراً، استدعي من الدولة السورية الرد عليه بحزم.
ويجمع المراقبون أن قوات الأسايش الكردية، لم تكن لتُقدم على هكذا خطوة استفزازية، بدون التنسيق مع القوات الأمريكية في المنطقة، التي لم تتأخر عن التصريح بأنها سترسل طائراتها الحربية لحماية حلفائها على الأرض، إلا أن الطائرات السورية واصلت تحليقها في سماء الحسكة بالرغم من التحذيرات الأمريكية.
فهذا التصعيد من قبل الأكراد، والذي ترافق بتصعيد موازي من رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني وتلويحه بالأنفصال، كان بمثابة رسالة أمريكية متعددة الأهداف، تولت الدولة السورية الاجابة عنها نيابة عن الجميع، بما فيهم تركيا.
فأمريكا أرادت من خلال التصعيد الكردي في سوريا، فرملة الاستدارة التركية نحو روسيا وإيران، وكذلك فرملة تقدّم الجيش السوري في كافة الميادين، ومحاولة امتصاص زخم الجيش السوري وحلفائه في معركة حلب من خلال استنزاف الجيش في جبهات متعددة، إلا أن القوات السورية والتي بطبيعة الحال تنطلق قراراتها من غرفة عمليات سورية-ايرانية-روسية مشتركة، ردت بشكل حازم على الرسائل الأمريكية، وحمل هذا الرد رسالة ضمنية إلى القيادة التركية، بأن الدولة السورية، هي الجهة الوحيدة القادرة على مواجهة مخطط فدرلة سوريا وتقسيمها، ومنع امتداد هذا المخطط إلى الجوار التركي.
بعد ما جرى في الحسكة، وموقف الدولة السورية، برزت تطورات متلاحقة وسريعة في المواقف والتصريحات التركية:
الأول: الزيارة السرية المفاجئة التي قام بها وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو إلى طهران واللقاء الذي جمعه لمدة خمس ساعات مع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف.
الثاني: التصريحات التي ادلى بها السيد نعمان كورتولموش، نائب رئيس الوزراء التركي الى الصحافيين، التي وجه فيها انتقاداً شرساً غير مسبوق لسياسة بلاده في سورية، عندما وصفها بأنها "اصبحت مصدرا لآلام كثيرة تعاني منها تركيا اليوم"، واضاف "انشاء الله سيتم قريبا التوصل الى حل يمكن للشعب السوري ان يقبله ويكون بديلا عن فرض الحل من الخارج".
الثالث: تصريح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم بأن "الأسد أحد الفاعلين في القضية السورية، ويمكن محاورته من أجل المرحلة الانتقالية، ويمكنه أن يبقى رئيساً مؤقتاً".
هذه الرسائل الضمنية المتبادلة بين سوريا وتركيا، تتجه لتصبح أكثر صراحة في الأيام المقبلة، في ظل التقارب الذي تبديه تركيا نحو حلفاء سوريا، أي إيران وروسيا، وهو لا شك سيكون له تأثير كبير على مجريات الأمور في سوريا.