الوقت - على مدى الثمانية والستين عاماً المنصرمة، احتل الصراع العربي الإسرائيلي، مراكز الصدارة في القضايا العالمية، إلا أنه في العقود الأخيرة حاول الكيان الإسرائيلي تحويل هذا الصراع إلى شأن فلسطيني داخلي.
ومؤخراً، أزالت السلطة الفلسطينية معارضتها للمبادرة المصرية بعقد مؤتمر إقليمي ودولي في القاهرة من أجل تحريك العملية السياسية بين فلسطين والكيان الإسرائيلي، لتسجّل دفاتر مؤتمرات السلام حلقةً جديدةً في مسلسلها، الذي تفوّق على "المسلسلات الهندية" في تعداد حلقاته دون أي جدوى تذكر، خاصّة أنه يأتي بعد فترة وجيزة على مؤتمري جنيف وباريس. فما هي فوائد هذه المؤتمرات؟ هل تخدم القضيّة الفلسطينية أم تضرّها؟ وهل هناك حل بديل؟
هناك رؤيتان تسيطران على الواقع الفلسطيني، ففي حين تسعى السلطة الفلسطينية لتحقيق أهدافها عبر المفاوضات، تعوّل فصائل المقاومة على الخيار العسكري، باعتبار أن القضية لم تحصد سوى الخيبة من مؤتمرات السلام المتعاقبة.
مهدت منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة ياسر عرفات، لعملية الدخول في السلام، عندما أعلنت من خلال المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر في 12-15/11/1988 اعترافها رسمياً بالقرار 181 الصادر عن الأمم المتحدة في 29/11/1947، والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين؛ عربية ويهودية. وفي بداية التسعينيات من القرن الماضي بدأت المسيرة السلمية بالانعقاد في مؤتمر مدريد للسلام في نهاية أكتوبر1991. بعدها تلاقت بعض الأطراف العربية من دول الطوق في مفاوضات ثنائية مع الكيان الإسرائيلي الأمر الذي شكّل اللبنة الأولى لتصفية قضيّة القدس في المرحلة اللاحقة عبر حصرها في إطارها الفلسطيني الضيق، وليس العربي والإسلامي.
الرؤية الأولى
يعوّل أصحاب الرؤية الأولى على المفاوضات مع الكيان الإسرائيلي، إلا أن الجانب الإسرائيلي يدأب في إجبار الجانب الفلسطيني على قبول البدائل التي تطرحها سلطاته عبر الضغط والتهديد. في الشكل يدعم الکيان الإسرائيلي التفاوض، إلا أنه يرفض أي تدخّل خارجي، بل يسعى لإبقاء العملية التفاوضية منحصرة بين الطرفين، وبالتالي يمكن تلخيص هذا الموضوع بالنقاط التالية:
أولاً: تخشى السلطات الإسرائيلية قطع شعرة معاوية مع الجانب الفلسطيني، خاصّة أن رفضها للمفاوضات سيؤدي إلى العزلة الدولية. لذلك، تحاول الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الدخول في المفاوضات والالتفاف عليها لإفراغها من مضمونها. على سبيل المثال، عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على إفراغ تسوية "اتفاق أوسلو"، الذي تم التوقيع عليه في واشنطن في 13/9/1993، من مضمونه، وذلك بعد أن حقّقت السلطة الإسرائيلية تطلعاتها في اعتراف فلسطيني رسمي.
ثانياً: حتّى لو توصّلت السلطات الإسرائيلية إلى أي اتفاقيات على طاولة المفاوضات، فإنها تحرص على إفراغ هذه الاتفاقيات من مضامينها. على سبيل المثال لا الحصر، تراجعت كميّة المياه التي حصل عليها الفلسطينيون في سنة 2008 بقرابة 50 مليون م3 على ما هو مقرّر في اتفاقيات أوسلو، أي بنسبة 42.8%. وفي العام 2016، وصلت نسبة التراجع إلى ما بين 50% و-70%..
ثالثاً: رغم وجود قناعات لدى بعض الإسرائيليين بضرورة المفاوضات لتجنّب العزلة الدولية، إلا أن بعض القوى اليمينيّة المتشدّدة، أحزاب "الليكود" و"البيت اليهودي" و"إسرائيل بيتنا"، تسعى لتعطيل مسيرة المفاوضات سواء عبر عدم تنفيذ الالتزامات الإسرائيلية تجاه الجانب الفلسطيني، أو عبر رفض أي جدول أعمال فلسطيني والتهديد بقطع المفاوضات إن لم تسرِ وفق جدول الأعمال الإسرائيلي. في الواقع، تنقسم الآراء الإسرائيلية إلى قسمين الأول يريد المفاوضات لاستدراج الفلسطينيين ونسفها، والثاني لا يريد المفاوضات من أصلها.
في الخلاصة، يظهر أن الكيان الإسرائيلي يريد المضي بـ"عملية السلام" دون التوصّل إلى معاهدة سلام، فالمفاوضات لا تعدو عن كونها خطوة لتلميع صورة الكيان الإسرائيلي أمام المجتمع الدولي من ناحية، ولتخفيف حدّة المقاومة عبر استدراج البعض إلى الطاولة وتقديم وعود مزيّفة من ناحية أخرى، وفي الحالتين الهدف هو تكريس السيطرة الإسرائيلية على كافّة الأراضي الإسرائيلية باستثناء غزّة.
في المقابل، لا تزال السلطة الفلسطينية مصرّة على هذا الخيار، رغم كافّة التجارب السابقة، وآخرها مؤتمر باريس الذي خيّب آمال كافّة المعولين عليه.
الرؤية الثانية
اعتمدت الرؤية الثانية على لغة المقاومة، مستفيدةً من بقيّة التجارب العربية التي خلصت إلى نتيجة أن "ما أخذ بالقوّة لا يستردّ إلا بالقوّة"، إلا أن حالة الانقسام الفلسطيني خفّفت من وطأة هذه الرؤية على الجانب الإسرائيلي.
لاقت هذه الرؤية رواجاً واسعاً بين أبناء الشعب الفلسطيني رغم العديد من العقبات التي تعترضها، سواءً لناحية التكلفة الباهظة، أو لناحية وقوف السلطة أمام هذا الخيار، إلا أن سياسة "القتل البطيء" الإسرائيلي، والتجربة "السلمية" الفاشلة في ظل فرض شروط تعجيزية تُفرغ المفاوضات من مضمونها وتُعظّم التنازلات الفلسطينية، رجّحت كفّة المقاومة، أو المغامرة والقتل السريع كما يسمّيها البعض.
وقد لاحظت قوى المقاومة، وكافّة الفصائل الفلسطينية أن اشتداد وطأة الخيار الثاني، دفع بالإسرائيليين لتقديم تنازلات تتبخّر سريعاً عند العودة إلى طاولة المفاوضات.
خلاصة الرؤية الثانية تقول، إن تجربة حوالي 70 عاماً تؤكد أن السلاح هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الكيان الإسرائيلي، لاسيّما أنها ساهمت في الفترة الأخيرة بإعادة الكثير من الإسرائيليين إلى الدول التي قدموا منها، كما أن التجربة اللبنانية التي انتهت بالتحرير عام 2000، وتجربة القطاع خير دليل على نجاعة تجربة المقاومة.
الخطر الأكبر
في الخلاصة، ورغم مساهمة المفاوضين الفلسطينيين في تضييع حقوق شعبهم، إلا أن الخطر الأكبر الذي يداهم القضية الفلسطينية اليوم هو سعي الكيان الإسرائيلي، بالتعاون مع العديد من الأنظمة العربية، لحصر القدس في الإطار الفلسطيني بعيداً عن إطاريها العربي والإسلامي، لتبقى فلسطين التاريخية لقمة سائغة أمام الإسرائيليين.